رام الله | «سِيدو، أنو أقرب؟ الجنة ولا نابلس؟»، بعينين واسعتين تطلان من نافذة السيارة يسأل أحمد دوابشة جدّه عن المسافة التي تبعده عن أمه وأبيه وشقيقه الصغير علي، ظاناً أن بضعة كيلومترات، أو ربما أيام، ستعيد شمل العائلة مرة ثانية، بعد فراقٍ دام ستة أشهر.
أحمد، ابن الخمس سنوات، هو الناجي الوحيد من محرقة مجرموها «تنظيم إرهابي من المستوطنين»، وراءهم تقف إسرائيل بكل تحريضها ونخبها. المجزرة كانت في مسقط رأسه في قرية دوما، جنوب نابلس، استشهد إثرها والده ووالدته وشقيقه تباعاً. منذ ذلك اليوم المشؤوم في العام الماضي، ظل أحمد يُعالج في أحد المستشفيات الإسرائيلية في الداخل المحتل، إلى أن أنهى المرحلة الأولى من العلاج وسافر إلى إسبانيا في رحلة قصيرة، التقى خلالها لاعبه المفضل كريستيانو رونالدو، داخل نادي ريـال مدريد، وأخيراً عاد إلى قريته دوما.
تلف الكاميرات والعيون نصف جسد أحمد الذي كبر قبل أوانه، ويذكّر كل نتوء في اليد الصغيرة بلهب تصاعد آنذاك حينما أخرجه والداه وعادا لإنقاذ الصغير علي، ليظل أحمد وحيداً يصرخ خلف الباب: «بابا.. ماما.. افتحولي». يسرد الصغير تفاصيل تلك الليلة ويكرر: «المستوطنين.. اه المستوطنين كسروا الشباك، وحرقوا البيت».
سيرتدي الطفل لمدة عامين مشدات خاصة تغطي مناطق الحروق

بقي أحمد متعلقاً بوالده كثيراً، وبقي يراه بطلاً قوياً. يقول: «بابا أكبر واحد، بابا أقوى واحد». وكان يستيقظ من النوم في معظم أيام العلاج ويسأل عن أمه باكياً: «وين ماما؟»، وكلما زاره أحد أو أهداه لعبة، يضعها بجانب السرير، ويردد: «الليلة بدي أعطي كل الألعاب لعلي ونلعب فيها، مش كلها إلي».
بعد الانتهاء من المرحلة الأولى للعلاج، وقبل نحو شهر من الآن، أخبرت العائلة، بالتعاون مع اختصاصية اجتماعية، أحمد، بأن والديه وشقيقه قد استشهدوا، وبأنهم في الجنة. يذكر عم أحمد، نصر دوابشة، تلك اللحظة جيداً، ويقول: «كنا خائفين جداً من رد فعله، وبعدما قضينا مدة جيدة في تهيئته نفسياً أخبرناه». كانت إجابته: «يعني دفنتوهم؟ حطيتوا تراب عليهم؟». «أخبرناه بأننا فعلنا وبأنهم الآن في الجنة».
يضيف نصر: «كان أحمد يسألنا دائماً لماذا هاجمنا المستوطنون؟ لم أبي وأمي وأخي؟ كنا دائماً نكرر الإجابة بأن الله يحبهم لذلك هم الآن بالجنة، وفي كل مرة يبتسم ولا يرد». سيبدأ أحمد هذه الأيام المرحلة الثانية للعلاج، وكانت الأولى مرحلة «ترقيع وإخراج» للدخان من جسده الصغير، واحتاجت ستة أشهر. أما الآن، فستبدأ مرحلة التأهيل خاصة لليد والقدم اليمنى، التي تحتاج ثلاث عمليات جراحية ومزيدت من التأهيل.
وسيرتدي الطفل لمدة عامين مشدات خاصة تغطي معظم مناطق الحروق حتى لا يحصل شدّ أو جرح في الجلد، ثم تأتي المرحلة الثالثة والأطول، وهي مرحلة التجميل لأنه فقد أذنه اليمنى، فضلاً عن امتداد الجلد والحروق في وجهه وجسده. هذه المرحلة قد يصل فيها العلاج إلى نحو ثماني سنوات. يؤكد العم نصر أن العائلة تسعى إلى نقل أحمد للعلاج في الخارج؛ «لا يعقل أن يحرقونا وأن يعالجونا، لن نقبل»، في إشارة إلى الإسرائيليين.
أما عن العلاج النفسي، فيوضح بالقول: «المرحلة الأولى من العلاج النفسي بدأت عندما أخبرناه بما حدث، ولكن هذا العلاج سيحتاج عدة سنوات حتى يتقبل ما حدث. لا يزال طفلاً ولا يفهم معنى الفقد أو الموت، ولم يزر مكان منزلهم حتى اللحظة، ولا أعرف إن كنا سنأخذه إلى هناك لاحقاً. لكن سنتابع بالتأكيد علاجه بكل جهد».
من ناحية أخرى، يصف دوابشة المحاكمات التي تجريها سلطات الاحتلال بأنها «مهزلة». ويستذكر المحاكمة الأولى حينما كان تحسين ظروف المستوطنين المعتقلين المتهمين هو الجزء الأكبر من النقاش. «أرادوا هواتف وأدوات إلكترونية وغيرها». يضيف: «كنت أصرخ في المحكمة وأتساءل: لو كان المتهم فلسطينياً، هل سيُعامل هكذا؟ هؤلاء تنظيم إرهابي، في البداية كان الاتهام لـ17 ثم صاروا 10 ثم 4 والآن 1!». وأكد دوابشة أخيراً أن عائلته لا تثق بالقضاء الإسرائيلي ولا في عدالته، وأنهم سيتجهون حاملين قضيتهم إلى المحاكم الدولية، كما رأى ما يحدث «معركة كبيرة»، «لكننا مؤمنون وواثقون بعدل الله».