هنا ما زلت غريباً. تتطاير كلمات العبرية فوق رأسي من كل صوب، لا أسمعها، لا أريد أن أفهمها، لا أفهم العبرية خارج فلسطين. عندما أعود إلى فلسطين ستعود هي إليّ قسراً. حالياً لا أسمعها! ألمان وإسرائيليون يركبون رياح الألب معاً، مخترقين مطبات هواء سواحل المتوسط، يحلّقون فوق بحرٍ مليءٍ بغواصات حاملات رؤوساً نووية وغازاً طبيعياً ومستقبلاً مشعاً... في طريقهم إلى فلسطين. لوفتهانزا أيتها الأميرة الآرية «كل الهنا فيكِ جازاك الله». تدور المضيفة الألمانية حاملةً قارورتي نبيذٍ. تهز معصميها الخفيفين، تتجاذب أطراف الكلام وتتبادل الضحكات مع شعب إسرائيل الحديث. جودي عليهم يا ساقية، أنسيهم همومهم بربك. لا ضغينة هنا في هذا الممر الضيّق الذي يفصل الألمان عن الصهاينة في طائرة لوفتهانزا الألمانية المنطلقة من فرانكفورت، حيث قبل 70 عاماً أعلنت منطقة «يودنراين» (نظيفة من اليهود). قد انتهت الحرب، واصطلحوا واتفق الجميع... عليّ أنا. اتفق الجميع على أنّه ينبغي للشعب الفلسطيني أن يدفع ثمن هذه المأساة. لذا، عليهم «تنظيف» فلسطين من العرب. اتفقوا على أني أنا الفلسطيني ابن القرية الجليلة عليّ أن أدفع ثمن ما اقترف هتلر وچيبلز هيملر وچرينچ.
أنا «ليلة البلور»، أنا «الجيتوهات»، أنا «الحل النهائي»، أنا معسكرات الاعتقال، أنا المحرقة بأمّ عينها، وحكمت في محكمة كافكا باللجوء الأبدي. اجتمعوا في ممرٍّ ضيّق في تاريخي، استنبطوا الأساطير ورسموا حروفها فوق تاريخي وأجمعوا على أنني عدو الشعب اليهودي. تأتي إليّ وتسألني بواسطة بضع كلماتٍ عبرية تعلمتهما أخيراً أفرحتها ورسمت ابتسامة قط بلاد العجائب على وجهها الناضح بالجهل: «هل تريد نبيذاً سيدي؟».
أرفع رأسي، أضع قطعة خبزٍ في فمي. تنظر إلي، أمضغ قطعة الخبز، تنظر إلي لبضع لحظاتٍ أخرى. أبلع قطعة الخبز. تستمر في طريقها مخلّفةً رسم ثغرها الباسم وأسنانها المرصوفة في مخيلة كل من تمرّ بجانبه.
لا عليكم، سأحمل عنكم عبئكم التاريخي بينما تجلسون في عمق البحر معاً في غواصاتكم المريحة الآمنة. سأحمل عبئكم كي لا يبقى وقت أو طاقة لأنفض ذاكرتي الجماعية وأحييها.
أوقفوا هذه الطائرة، أريد أن أهبط في حقبة أستطيع أن أكتب فيها تاريخي المسلوب.
نهبط في تل أبيب، وتسرع المضيفة الألمانية لتعلن بالعبرية التي تنطلق من حنجرتها متقطعة، فلا تعرف أين تأخذ النفس بين حروف اللغة السامية: «وصلنا إلى إسرائيل وهبطنا بسلام في مطار بن غوريون. يوماً سعيداً». يضحك جميع الركاب فرحين غير مصدقين كعادتهم أن لهم دولة ولغة وكياناً. ضحك الإسرائيليون وفرح «الجرمان» جميعاً محيّين زميلتهم المجتهدة.
«أهلاً بك في إسرائيل»، تقول اللافتة الضخمة التي تستقبلك فور خروجك من الطائرة، وضعت أسفلها ثلاث أيقونات لتعريف إسرائيل:
«الصبر» هذا الذي تركه الفلاحون في طريقهم إلى الشمال، وما زال يغدق بثماره على المارة كل صيف، صابراً منتظراً عودة أصحابه. «البرتقال» هذا الذي ملأت به يافا العالم يوماً، حتى أصبح اسمه مقروناً باسمها في أصقاع المعمورة. «الفلافل»، هذا الطعام الذي تصنعه والدتك يوم تقرر «شطف» شبابيك البيت، فلا يكون معها متسعٌ من الوقت لتجهز طعام الغداء.
هبطنا في تل أبيب. باءت تمنياتي السماوية بالفشل. ما زلت رهن تاريخهم.