غزة - أماني شنينو في السيارة، في طريقي إلى جنوب البلاد التي تسمى غزة، رجل يجلس في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، امرأتان إلى جانبي في الكرسي المتوسط، وفي الخلف ثلاثة رجال.
إذاعة تحكي أخباراً وأخباراً. «من يُخرس هذا الراديو اللعين؟» اقول في نفسي. كلما تلا المذيع خبراً، خفض السائق الصوت حتى انتهائه، وعند الفاصل الغنائي يعود ويرفع الصوت مجدداً بشكل لا يُحتمل. ليذهب إلى الجحيم! ما فائدة الراديو في بلادنا سوى التنغيص علينا؟ كما كل شيء هنا!

مسافة الطريق أكثر من نصف ساعة، مضت منها سبع دقائق تقريباً. سأُحاول أن أفكر في أمرٍ جيد ولا افكر بالصوت المزعج. حسناً، الجسر.. نمرّ عليه الآن. هذا الجسر قصفته اسرائيل في الحرب الأخيرة. لكل من يسأل عن جسرنا المرابط الحبيب: إن الجسر بخير اليوم وها قد تم إصلاحه، وبإمكان الجنوب والشمال أن يتصالحا بأكثر من طريق.
وصلنا إلى محطة الوقود. الانتظار يبدأ عداده، سيارات تصطف في طوابير، وهذا جيد، أشعر بأن رحلتي ستكون مختلفة، لذا قررتُ أن أكتب تفاصيلها لتبقى في يومياتي، ولأني أُحاول استرجاع الطريقة القديمة في الكتابة، بواسطة القلم.
تعود الأخبار مرة أخرى، تنتزعني غصباً عني من البحر وهذا الجو الذي يبدو جميلاً ، إليها. الخبر «عن مجاهدة سورية تنضم للجيش الحر». وهنا يحب السائق أن يبرز مهاراته الرجولية، يقول ساخراً «قال مجاهدة.. قال! هما خلصوا خلص المجاهدين؟». ثم يضحك بشكل هستيري. تساءلت في البدء لمَ لم يخفض الصوت كعادته، عرفت الآن السبب!
ابتعدنا عن البحر، نحن على مقربة من منطقة تسمى «دير البلح»، أُطل من النافذة: أطفال يركضون بين السيارات دون خوف، أتساءل: ما هو سر أطفال الجنوب وما سر تميزهم الى هذا الحد؟ في عيونهم قوة تخيفك على ضعف أجسادهم!
«دير البلح» يلكزك بنخله، ليقول لك إنه هو هذا، وهو هنا. نخلٌ في كل مكان، كثير وطويل يكاد يتطاول مقتربا من السحاب.
وصلتُ المكان الذي عليّ أن أترجل فيه لأجري بعض المقابلات لتقريري اليومي. كان موضوعي اليوم يتحدث عن أسرة بلا مأوى.. حينما سمعتُ القصة شعرتُ بغرابتها، ليس لأنه لا يوجد فقر او أني اسمع به للمرة الأولى. ولكن، في غزة التي تحكمها حكومة إسلامية، كيف تعيش امرأة في العراء دون مأوى؟ لا افهم!
كنت أظن أنها الحالة الوحيدة. وإذ بشابٍ يقودني إلى... مخيمٍ كامل! عرفت في ما بعد أنه يطلق عليه اسم مخيم «وكر الجامع».
هكذا، وبعد ان تمر ببضع فيلات وبيوت رائعة كلها في أول الشارع، اذا بنا ندخل إلى عالم آخر تماما وعلى العكس من الواجهة المرتبة التي مررنا بها بداية.
يا الهي! لا يمكنني أبداً وصف ما رأيته هناك. لا يمكن لأي أحد من القراء أن يتخيل مقدار الفقر الذي يُعانيه هذا المخيم. مقدار الوجع الذي سيشعر به كل شخص يمر ولو صدفة من هناك!
بيوت لا تشبه البيوت أبداً. للحظة تحس بأنها ستنهار فوقك! منظرها من الخارج يُوحي بأشكال مكعبة مهجورة، لا يمكنك أن تتخيل أيضاً وجود اشخاص فيها، يسكنون فيها، ويعيشون كما لو أن العيش هكذا أمر عادي وطبيعي.
أكثر ما آلمني ذلك البيت الذي تسكنه امرأة وزوجها المريض وأبناؤها الثلاثة. حسناً، اطلاق تسمية بيت على هذا الشيء هو إجحاف بحق هذه الكلمة في القواميس العربية كلها. المكان هو في الحقيقة، وكما أخبرتني المرأة مجرد حظيرة للأغنام. ظننت الامر في البداية مجازاً. لكن لا، ليس مجازا أبداً، فالعائلة لشدة الفقر لا تملك بيتاً. بالطبع في البداية سكنت بالإيجار. ولكن صاحب البيت لم يحتملهم لعجزهم عن تسديد فواتيرهم. لذا تبرع جارهم بحظيرة كان يُربّي فيها أغنامه قبل ان يبيعها، وأسكنهم فيها كحلٍ مؤقت.
في «وكر الجامع» تندسّ خجلة العديد من القصص المؤلمة. وربما هناك ما يدهش اكثر من قصة الحظيرة المسكونة. لكنني طوال الوقت كنت أتأمل هذا المخيم: بيوته وأهله وأطفاله.. كيف للإنسان أن يقبل على نفسه أن يعيش في وضع كهذا؟ مؤكد أنه يرى هذا «الحل» أهون من العيش في الشارع. لكنني ربما أُخالفهم، فحتى العيش في الشوارع أفضل بكثير من عيشة كهذه.
من الجدير قوله، أن الرئيس الراحل ياسر عرفات قد اعتبر مخيم «وكر الجامع» بمثابة المخيم التاسع في غزة. اما وكالة الأونروا فلا تنظر إليه حتى، ولا تعتبره جزءاً من البلاد التي تخدمها وتقدم لها المعونات. في حين ان الحكومة تعتبره أرض وقف حكومية، وعلى السكان (صدقوا او لا تصدقوا) دفع الإيجار!
لن أُعلِّق أبداً على هذا.. لأنني سأصمت دقيقة صمت حدادا على موت الإنسانية، هنا في غزة.