«الهبّة الشعبية» التي حصلت في 16 حزيران من العام الماضي، بسبب الإجراءات الأمنية على مدخل البارد وتراكمات أخرى، ونجم عنها سقوط بعض الشهداء والجرحى والمعتقلين، كاد يستغلها أصحاب النيّات الخبيثة، لولا تدخّل العقلاء من الجانبين للوصول إلى نقاط تفاهم مشتركة فُضّ إثرها «الاعتصام» الذي استمر لأكثر من شهر وتخلله قطع للطرقات وإشعال للإطارات وعطّل الحياة في المخيم. لكنّ الإجراءات الأمنية المتّبعة حديثاً، تفوق من حيث المسّ بالكرامة والإنسانية تلك التي أدّت إلى الهبّة الماضية. ففضلاً عن كونها تطاول النساء والأطفال والشيوخ من حيث الوقوف في «طوابير الانتظار» المقيت للوصول إلى التفتيش الدقيق والمهين، فإنها بلغت حدود تجريد بعض الشبّان من بعض ملابسهم على أحد الحواجز، ما يتنافى مع حقوق الإنسان ويتعارض مع ما اتُّفق عليه سابقاً لفضّ الاعتصام. كذلك تشي المعلومات شبه المؤكّدة التي يتناقلها سكّان المخيم بأنّ هناك أكثر من 50 مطلوباً من أبنائهم بمذكرات توقيف غيابيّة، ينبغي مثولهم أمام القضاء العسكري لاشتراكهم في الهبّة الماضية، رغم الاتفاق الذي نص على «عدم استدعاء أيٍّ من أبناء المخيم». وهذا بدوره يُشعر أبناء المخيم، ولا سيما «الحراك الشبابي» بأنه قد غُرّر بهم، ما يعيدهم إلى نقطة البداية، وإلى ستّ سنوات خلت.
ويترافق هذا مع حملة استدعاءات واسعة تطاول العشرات من أبناء المخيم إلى مقارّ «الأجهزة الأمنية» ومكاتبها للتحقيق معهم، وخاصّة أولئك الذين سبق لهم أن أُوقفوا وزُجّوا في السجون بتهمة الانتماء إلى مجموعات «فتح الإسلام» وأُطلق سراحهم لعدم ثبوت التهمة. وهذا بدوره يولّد مشاعر غبن لدى هذه الفئة من أبناء المخيم.
الجيش اللبناني يكاد يكون المؤسسة الوحيدة التي تُمارس مهماتها على الأرض ضمن «حدود المستطاع»، في ظل غياب شبه كلّي وعجز تام قد يصل إلى حدود شلل بقية مؤسسات الدولة وأجهزتها، ولا مصلحة إلا لأعداء الوطن بتوجيه سهام الحقد والضغينة إليه، وأبناء «مخيم نهر البارد» شأنهم شأن بقية أبناء المخيمات يكنّون كل مشاعر الحب والاحترام والتقدير للمؤسسة العسكرية، ويشعرون بأنهم وإيّاها في «خندق واحد» في مواجهة «العدو الصهيوني» وأعداء لبنان وفلسطين، وإن كانوا يفاخرون ويتباهون بقبولٍ ورضىً وتسليم بأنّ «مخيمهم» يكاد يكون المنطقة الوحيدة في لبنان التي تُمارس فيها الدولة سلطاتها كاملة، إلّا أنهم يعبّرون عن استيائهم من طريقة التعاطي السلبي معهم، ما يُشعرهم بأنهم خارجون عن القانون ويقيمون في معتقل كبير، لذا تراهم ينادون بمعاملتهم أُسوة ببقية المناطق، لا تلك التي يعمّها «الفلتان الأمني»، بل تلك التي يُعامل أهلها بإنسانية واحترام.
يُمكن تلخيص وضع المخيم بأنه «نار تحت رماد»، ولا سيما في ظل حملة «تحريض ممنهج» من بعض الجهات «غير الفلسطينية» بقصد «الاصطياد في الماء العكر». جهات تعمل منذ زمن على إقحام الفلسطيني بأتون الخلافات اللبنانية لإمرار مشاريع لا يعلمها إلّا الله والراسخون في العلم. ولا مصلحة للجيش اللبناني ولا لأبناء المخيم بفتح ثُغَر يُمكن أولئك الولوج منها لتحقيق أهدافهم الخبيثة، وهذا يفرض فتح حوار أخويّ جادّ وبنّاء بين الجهات المعنيّة، يُمكّن من سحب الفتيل وتلافي ما لا تُحمَد عقباه، وقد قيل قديماً: «رحم الله والدَيْ من كان يجبُرها قبل أن تنكسر».