إسطنبول ــ
الطفل الذي بلغ العشرين ولم يدرك ماهية الوطن بعد... ثمانية عشر عاماً في غزة، مسجوناً بالمعنى الفيزيائي والروحي في 360 كلم مربعاً. لا يعرف منها سوى ثلاثة أحياء. تولد تحت الاحتلال. تزرع في رأسك فكرة واحدة: وطنك محتل؛ وطنك الذي لم تعرفه جيداً. يلقنونك في المدرسة: مساحة فلسطين 27000 كلم مربع، وفي الجغرافيا تتعلم تضاريس الجبال والصحراء والسهول التي لم تلمسها عينك. أنت تتعلم ولا ترى شيئاً. أنت تحفظ ما على الورق لا أكثر. أصعب ما كنّا نتبارى فيه من يتقن «طعجة» حيفا في الخريطة. أما تقعيرا طبريا والبحر الميت، فسهلان في الرسم.
تبدأ القصة بعد الولادة بقليل. حين تسجل في «الكوشان»* فلسطينياً. هذه الورقة هي الصلة الأولى لك بفلسطين. تكبر قليلاً لتجد نفسك في الروضة تستمتع بالأغاني الوطنية وتحفظها بحماسة، ثم تتعلم النشيد الوطني وتحية احترام العلم. حتى الآن هذا ما يربطك بفلسطين. ثم طوال أيام الدراسة من الابتدائية حتى الثانوية، تدرس فلسطين تاريخاً وجغرافيا ومدنية ووطنية. تحفظ مدنها كلها وأين تقع برغم علمك أنك قد تموت قبل أن تراها. المضحك أنهم كانوا يعلموننا ما هي حقوقك بصفتك مواطناً فلسطينياً!
لنفترض أن كل ما سبق لا شيء. ربما؟ سيكبر الطفل قليلاً، ويريد أن يخرج من الوطن ليكمل دراسته بعيداً عن «الدراسة النظرية» في أقوى جامعات غزة. تبدأ ملامح الحدود تتضح أمام عينيه في كل مرة كان يذهب فيها إلى المعبر ثم يعود محملاً بالخيبة. المحاولات جيدة لتعلم الكثير قبل الوقوع في فخ الغربة. تضع في حقيبتك كل ما تستطيع حمله من الوطن: الزعتر، والصابون، والميرمية (القصعين). هذا ما قد يفسر ثقل حقائبنا التي نجرها ويلقيها الأمن المصري من أرض إلى أرض.
بعدما تصير غزة خلف ظهرك، وتسير مثقلاً بالحقائب، يناديك الجندي العربي كي تسرع: «يلّا امشي، ولّا عاوز ترجع غزة تاني؟». قليلون من يحالفهم الحظ من الغزيين بدخول مصر. ولكنه ليس حظاً كبيراً أن تبدأ التعرف معاينة على أوطان أخرى قبل وطنك. في مصر تعلم تماماً أن «لا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى». كان نصيبي السفر إلى مطار إسطنبول، لتبدأ الرحلة «خارج زمن غزة» بحق.
تحار في تعريف نفسك في إسطنبول، بين سائح أو فلسطيني. إن حالفك الحظ ووجدت من يعرف الإنكليزية وسألك عن بلدك. «باليستاين». تتغير ملامحه متسائلاً: «باكستان؟». تأخذ التنهيدة الطويلة قبل استجماع ما تعرفه من كلمات أجنبية كي تبدأ رحلة التعريف عن وطنك، الذي لم تره. حتى الأتراك الذين كانوا يسمعون منا كلمة «فِلِستِين»، ويكيلون لنا عبارات التضامن والمحبة، ينتهي نقاش بعضهم إلى قوله :«بعتم أراضيكم!». ومن الجيد أن تصادف من يظن أن فلسطين دولة، وإسرائيل دولة أخرى، وأنهما دولتان متجاورتان تتعاركان حول الأرض لا أكثر. هذا على الأقل صدق واقعاً لا كذبة. ولا يخلو الأمر من لقاء من قد يعرف عن وطنك أكثر منك، لكنهم قلة.
الوضع ليس سيئاً إلى هذا الحدّ. قد تجد فلسطين خارجها. تحديداً حينما تجمعك مائدة واحدة بفلسطيني من الضفة وآخر من القدس وثالث من الداخل. ولا في أقصى الأحلام أن تلتقيهم داخل الوطن نفسه. أكثر من ذلك، ستجد بجانبك فلسطينياً لجأ جده إلى سوريا قبل أكثر من ستين عاماً، واليوم هو لاجئ في إسطنبول. ستدرك في تلك اللحظة كيف قسمنا الاحتلال إلى خمسة مجتمعات على الأقل، وستجد كيف أن كل مجتمع كبر وتمدد في اتجاه مختلف عن الآخر: في جغرافيا مختلفة، وظروف مغايرة. لا يجمعنا إلا اسم فلسطين والقضية، وكلمات مشتركة بين كل لهجة وأخرى نستمتع كل مرة في اكتشاف الفروق في ما بيننا.
أما الجدليات الأكبر فهي بيننا وبين أحبائنا/أندادنا الضفيين. أنت كغزيّ لا تدرك معنى الوقوف ساعات على «المحاسيم» (الحواجز)، وهو لا يدرك معنى انقطاع الكهرباء أياماً طويلة. أما صديقنا من الداخل فلا يدرك كيف يمكن أن يمنع من السفر... ولا أحد منّا يدرك كيف تمضي عشرين عاماً من حياتك ولم تر القدس لمرة واحدة!
نخاف أن نمضي عمرنا ونحن نجري محاولات الوصول إلى فلسطين أو التعرف إليها. لكن في لبنان، حيث فيروز التي غنت «يا قدس يا زهرة المدائن»، تبقى لنا الوجهة الأقرب، والأصدق ربما. هناك رأيت فلسطين في المخيمات وعيون من هُجِّروا، وقريباً من حدود أرض قد حررت فعلاً من يد الإسرائيليين. في قلعة الشقيف رأينا فلسطين وراء جبل الشيخ. ربما كنا في تلك اللحظة أقرب إلى فلسطين من أيّ وقت مضى مع أننا عشنا فيها. شعرنا بأن فلسطين ضاعت حقاً. يوماً بعد يوم، وسفراً بعد سفر، تدرك أن الطريق إلى فلسطين لا يزال طويلاً، وأن فلسطين ليست على مرمى حجر كما أخبرتنا قيادة الثورة. هل كانت وجبة فطور جدي وهماً؟ كل صباح كانت تتجدد الوجبة على مدار سبعة عقود خلت... ما أبعدك عنا وما أقربك إلى قلوبنا يا «زهرة المدائن»!
*شهادة الميلاد