" لا تعشقي فلسطينياً..
فقد يموت بأي لحظة
رصاصُ بلاده كثير وطائشٌ جداً
والسجن لديه مثل زيارة قريب.
لا تعشقي فلسطينياً
فإن لم يُصبه الرصاص أو عتم السجن
أصابتهُ الذكريات*.
فلسطين- في بداية علاقته معها، كتبَ فارس ذات يوم خلال محادثاته معها عبر "الماسنجر": " أنتِ لا تعرفين شيئاً عن عالمي". لكن ردها كان صادماً بحق "بل أعلم الكثير! إنه مليء بالحروب والعنف والخوف والموت. إنكم تضطهدون النساء. أنتج مجتمعكم الكثير من الإرهابيين العالميين الذين قتلوا وما زالوا يقتلون الكثير من الناس في مختلف أنحاء العالم! لا مانع لديكم من قتل الغربيين واليهود والمدنيين الإسرائيليين الأبرياء كونهم "أعداءكم"، وفي ظنكم انهم لا يستحقون الحياة!".
صدمه ردها! قال لها:"حسناً. قلتِ بأنكِ آتية إلى مصر قريباً، ما رأيكِ بالمجيء إلى قطاع غزة؟". لم ترد. لعنَ في سره صديقه الصحتفي الروماني جورج، الذي جاء غزة مرتين، حيثُ عملَ فارس معه كمترجم وهي المهنة التي يزاولها كصحافي حر. تمتنت العلاقة بينهما لاحقاً قبل أن يستأذنه في أن يُعرِّفهُ إليها قائلاً بأن "اسمها أنستازيا: وهي صحافية رومانية حديثة التخرج، وتريد التعرف على صحافي فلسطيني". قال له:" لا بأس! أرسل لها بريدي الإلكتروني".

عرّفت عن نفسها بأنها تسكن في مدينة بوخارست، لكن أصلها يعود إلى مدينة تيميشوارا: تلك المدينة التي انطلقت منها شرارة الثورة ضد نظام الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو. أمها مطلقة، وتعمل كمديرة لإحدى الشركات المهمة عابرة القارات في رومانيا، ولديها أختٌ توأم.
" شيء ما" دفعه ليواصل حواراته معها، رغم شجاراتهما المتكررة. قال لها خلال إحداها: "أرى نقاشاتنا من دون جدوى حتى لو استمرت إلى الأبد! ما رأيكِ أن تأتي إلى بيتي في مدينة غزة". لزمتْ الصمتْ، كرر دعوته بعدها مراراً، من دون أن يجدَ منها موافقة صريحة.
بعد مرورِ فترة، بدأ يلمسُ تغيراً في موقفها: فرغم "أفكارها المسبقة"، إلا أنها أرادت أن تفهم منه الحقيقة. بدأ يحدثها عن الواقع المر الذي يحياه شعبه: ثمانون بالمئة من الناس في غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية الخارجية. يعاني جلُّ الأطفال والنساء فيها من سوء التغذية. خمسة وتسعون بالمئة من المياه الموجودة بغزة غير صالحة للاستخدام الآدمي، وغيرها من الأرقام الصادمة...
في البداية، كانت النقاشات تشتعل بينهما، إذ كانتْ تصرُ على أن الفلسطينيين يتحملون مسؤولية ما يحصل لهم. أما الآن، فإنها تحاول أن تناقش كي تفهم.
ذات مرة طلب منها أن تريه صورتها. لم تُمانع: أرسلتْ له صورة تجمعها بأختها التوأم. لم يستطع استرجاع فكه السفلي إلا بعد زمن: لقد التقطت الصورة لهما وقد ألصقتا رأسيهما وتبتسمان في عذوبة. عيونهما الزرقاء تبدو كشرفات تطل على سماء فيروزية صافية، بينما لمعت الابتسامتان كاشفتين عن صفين رائعين من الأسنان ناصعة البياض، فيما انحدر الشعر الأشقر الغزير على الكتفين كشلالين من الحرير!
في تلك الليلة لم ينم. شعرَ بأن ضلوعه أصبحت قفصاً يسجن بين جنباته طائراً بقي يضرب بجناحيه قضبان القفص بقوة محاولاً الخروج. كان ذاك الطائر هو قلبه! قرر كتم ما يشعر به عنها، وأن يبقى صديقاً فقط.
طلبت هي أن تراه عبر الكاميرا. لم يمانع. كانت أول عبارة سمعها منها ساعة رأته: " آها! أهذا أنت؟ غير معقول! لقد تخيلتكَ قمحي البشرة، مع شعر وعينين داكنتي السواد. لكنني أرى أنكَ عسلي العينين مع بشرة بيضاء وشعر مائل للشقرة... أنتَ وسيمٌ بالفعل! . ابتسم. رد عليها قائلاً: "شكراً أنستازيا. وأنتِ بارعة الجمال أيضاً...". منذ ذلك اليوم أصبحت جل حواراتهما تتم عبر الكاميرا، كما أنها أصبحتْ أقل حدة. كثيراً ما لاحظ في نظراتها له، خلال محاوراتهما، أنها تحمل الكثير من الإعجاب. هل هو مخطئ؟ ربما! قال لها ذات مرة: "قولي لي: لماذا لا تريدين المجيء إلى قطاع غزة؟".
صمتتْ مجدداً. بدا وكأنها تفكر بعمق، قبل أن تقول له بهدوء: "سأكون صادقة معك يا فارس: ما زلتُ أفكر في الموضوع. المسألة ليستْ سهلة، أنتم تحت حصارٍ خانق منذ العام الماضي (2007) والمجيء اليكم ليس سهلاً أبداً... دعني أفكر بالمسألة أولاً".
كانت تلك المحاورة في شهر أغسطس/آب. بعدها بشهرين زفّت له الخبر"سأكون في مصر أواخر ديسمبر/كانون اول، وسأحاول الدخول من هناك إلى غزة. سأقضي هناك إجازة رأس السنة، بالإضافة إلى أسبوعين. لعل هذا الأمر يسرك!".
يسرني؟ أكاد أطير من الفرحة! أنا بانتظارك...
لكن شقيقتي التوأم ستأتي معي.
أين المشكلة؟ لا بأس. أهلاً وسهلاً بكما. هذا إن استطعتما دخول غزة أصلاً! فمعبر رفح مغلق منذ فترة طويلة، ولا أتوقع أن القائمين عليه سيفتحونه خصيصاً من أجل جمالكما الكاسح!
ردت وهي تبتسم "سوف نرى".
وحل اليوم المنتظر... فكَّرَ هو: "كيف ستتمكنان من دخول قطاع غزة؟ هذا مستحيل فعلياً!". كان معبر رفح يفتح أبوابه في الاتجاهين، مرة واحدة لثلاثة أيام، كل أربعين يوماً على أفضل تقدير للمرضى والطلبة والحالات الإنسانية الأخرى من المسافرين. كان دخول صحافي أجنبي من ثقب الإبرة أسهل بكثير من دخوله غزة! فعلها لاحقاً الصحافي بقناة الجزيرة، غسان بن جدو ودخل غزة عبر الأنفاق سراً، إضافة إلى ميكو بيليد، أحد أشهر المتضامنين الإسرائيليين مع الفلسطينيين.
لكن إجابة سؤاله كانت مفاجأة بالفعل! لقد تمكنت كلتاهما من دخول غزة وعبر معبر رفح وبشكل رسمي، يوم الثالث والعشرين من ديسمبر عام 2008، ليشهد هو هذه المعجزة بعينيه!

وصلتا أخيراً إلى معبر رفح. بمجرد أن رآهما، هتف ساخطاً: " يا للمصيبة..!". كانتا قد جاءتا مرتديتين "بلوزتين ضيقتين" مع سروالين سوداوين من "الفيزون" الشفاف! فكر ساخطاً" ألا يشعرون "هناك" بالبرد مثلنا؟ إننا في نهاية شهر ديسمبر!!". لم تنته المسألة عند هذا الحد: بمجرد أن قابلتاه، صافحته أنستازيا بحرارة، لكن شقيقتها التوأم ريناتا المجنونة قامت بعناقه، لتتدفق دماء الخجل حارة إلى رأسه! فكَّرَ مجدداً: "لعنة الله عليكِ يا ريناتا! هل تظنين أننا في نيويورك؟ نحن في غزة، وأنتِ تفعلين ذلك على مرأى رجال الأمن التابعين لحكومة حماس!
أفهمها لاحقاً بأن ما قامت به "كارثة" بالنسبة له، وأنه سيوضع على "القائمة السوداء" بسبب تصرفها ذاك! ردت ببراءة: "لكنني وجدتُ أن الجو دافئ عندكم، ولا بأس بارتداء هذه الملابس!".
وأخيراً، وصلت السيارة التي تقلهم إلى منزله في حي "تل الهوا" بمدينة غزة: كان قد رتب لإقامتهما هناك، بموافقة عائلته. هو أعزب في الثامنة والعشرين، يقيم في منزل مكون من طابقين: الجزء السفلي يستخدم كقاعة لاستقبال الضيوف، وهو المكان الذي سيكون خاصاً بإقامتهما. جاء جميعُ أفراد عائلته للترحيب بهما: والدته وأخته لين وأخوه أحمد، بالإضافة إلى والده. كان الوحيد بينهم الذي يتحدث الإنكليزية بطلاقة.
قالت أمه مرحبة باللغة العربية: "أهلاً وسهلاً! اعتبرا نفسيكما في بيتكما. أنتما مثل ابنتي لين". ثم التفتت إلى فارس لتسأله: "ما هي أسماؤهما؟".

أنستازيا وريناتا...

طيلة إقامة الفتاتين في المنزل، لم تتمكن أمه من حفظ هذين الاسمين أبداً، فكانت تناديهما باسمين عربيين استحدثتهما هي: أنيسة بدلاً من أنستازيا، وريما بدلاً من "ريناتا"! أحبتهما بصدق، كما أحباها هما أيضاً، وقد بدا وكأن الأمور على ما يرام بين الجميع. بعد الانتهاء من ترتيب أغراضهما بعد نقلها من الحقائب، سأل أنستازيا السؤال الذي كان ينهش مخه: "كيف استطعتما الدخول في حين أن ذبابة لا تستطيع الدخول إلينا؟".
نظرت كلتاهما إلى بعضهما البعض وهما تبتسمان، ثم غمزت أنستازيا لتفرك سبابتها بإبهامها، وهي تقول: "المال يا صديقي يصنع كل شيء! لوالدتي علاقاتها بحكم أن هناك فرعاً من الشركة التي تعمل بها موجود في مصر، تدبرت هي أمر دخولنا بشكل رسمي، بعد دفعنا رشوة بسيطة: خمسة آلاف دولار!".

كانت الأيام التالية مزدحمة بالجدول الذي رتبه لهما: زيارة مخيمات اللاجئين، والمستشفيات والمدارس والمؤسسات الإغاثية والمختصة بحقوق الإنسان. كانت الأوضاع كارثية بحق. تأملتْ الفتاتان الأوضاع بذهول، قبل أن تقول ريناتا: "لم أكن أتخيل أن الأوضاع رهيبة بهذا الشكل!". رد باقتضاب: «بل هي أسوأ". يوماً تلو الآخر، كانت مشاعر أنستازيا تبدو واضحة تماماً: إنها تحبه! كثيراً ما احتفظت بيده بين يديها اللدنتين. كثيراً ما كشف لمعان عينيها الوامض بالحب، سرها. كذلك لاحظ أيضاً نظرات الغيرة في عيون ريناتا. كان كل شيء يسير على ما يرام إلى أن حل 27 ديسمبر: كان يوم سبتٍ لا ينسى، حيثُ كان عائداً بهما من ميناء غزة، بعد أن تحدثت الفتاتان مع الصيادين عن واقعهم المر. كان يسير بالقرب من مستشفى الشفاء بغزة، عندما بدأت الأرض ترتجف من تحتهم بقوة. صرخت الفتاتان، وقد احتمتا به. صاح بهما: "دعونا ندخل المستشفى!". بدأ عويل سيارات الإسعاف يتعالى، فيما راحت أعمدة الدخان والنار ترتفع في سماء غزة كنذير بالموت والخراب.
سرعان ما بدأت الجثث تصل إلى المستشفى. امتلأت ثلاجات جثث الموتى، فراح المسعفون يرصونها بجوار بعضها بعضاً. كانت جلها لرجال الشرطة، فيما كان بعضها لتلاميذ المدارس الذين صادف مرورهم بجوار المقار الأمنية التي قصفت. كانت المنطقة أشبه بمعرضٍ لعشرات الجثث أمام الجميع. راحت أنستازيا تبكي بهستيريا: "دعنا نعود إلى المنزل. لم أعد أحتمل!"، فيما كانت علامات الذهول واضحة على وجه ريناتا التي راحتْ تبكي بصمت.
بصعوبة، تدبر سيارة أخذتهما إلى المنزل. كانتْ جل نوافذ المنزل محطمة بفعل القصف، لكن عائلته كانت بخير. شاهد أخته لين محمرة العينين من البكاء، وقد عادت من مدرستها الثانوية، وبادرتهُ بمجرد دخوله المنزل: "صديقتاي مريم وهناء قتلتا في القصف يا فارس! ماتتا أثناء مرورهما من أمام مقر وزارة الداخلية، غير بعيد من منزلنا. كان من الممكن أن أكون معهما، لولا أنني تأخرتُ خمس دقائق فقط. تخيل! ". حاول تهدئتها، قبل أن يتوجه إلى الطابق السفلي، حيثُ كانت كل من ريناتا وأنستازيا تتجادلان بصوت مرتفع ليقطع حديثهما، بدخوله. صمتتا تماماً ساعتها. سألهما عما بهما، لتقول له الأُخرى بعد صمت استمر لدقائق: "فارس: لدي ثلاثة اعترافات أريد أن أخبركَ بها: الأول أنني أحبك..!". ابتسم. قال لها: "حسناً، وماذا أيضاً؟". نظرتْ حذرة إلى أختها وهي تقول: "ريناتا تحبك أيضاً.. وبجنون!". تلاشت ابتسامته. تابعت هي: "هنالك أمر أخير يا فارس...". صرختْ ساعتها أختها وقد أدركتْ ما تود قولهُ: "أنستازيا اصمتي!". صاحت بدورها هي الأخرى: "دعيه يعرف! يجب أن يعرف!". ثم التفتت إليه، وهي تنظر إلى وجهه بعنين لا تطرفان، قائلة: "حبيبي فارس، أنا وأختي إسرائيليتان! وقد قدمنا هنا كي نكتب عن مغامرتنا في دخول غزة! لمَ تنظر إلي هكذا يا حبيبي؟! لا تبق صامتاً... تكلم أرجوك!".

كانت صدمة كارثية بالنسبة له! جلس على أقرب مقعد له، وألقى رأسه بين كفيه. لا يدري كم مكث هكذا ليرفع بعدها رأسه، ويرى عيني أنستازيا المحمرتين الدامعتين، وقد بقيت متسمرة مكانها، فيما جلستْ شقيقتها على أحد المقاعد تتأمله وهي تدخن بشراهة. سأل أنستازيا بصوت خافت: " هل لكِ أن تخبريني بالحقيقة كاملة؟ لا تخفي عني شيئاً!".
هكذا فعلتْ: أخبرتهُ أنها يهودية إسرائيلية من حي "رامات أفيف" الراقي بمدينة تل أبيب، تحمل جنسية رومانية وتجيد لغتها بحكم أن أمها من هناك وأنها عاشت بها ردحاً من الزمن. وقد أحبتْ هي وأختها مجال الصحافة منذ الصغر، وقررتا دراسته والعمل به عندما تحصلان على شهادة "البغروت" (ما يوازي شهادة الثانوية العامة لدى الفلسطينيين). أرادت التعرف على صحافي فلسطيني، فتحدثت إلى جورج، الذي تعرفت إليه خلال عمله بتل أبيب، وطلبتْ منه أن يعرفها على صحافي "مثقف ومتفتح الذهن"، فعرفها عليه! عند هذه النقطة، سألها محتداً: " لماذا أتيتِ إلى غزة؟! أريد أن افهم!".
لا تنسَ أنكَ من اقترح علي ذلك مراراً! وقد وافقتُ على الفكرة لأنني أردتُ أن أكتشف الحقيقة وأكتب عنها للإسرائيليين، تماماً مثلما فعل يورام أبينور!

من يورام هذا؟!

صحافي إسرائيلي، كان يجيد العربية، وتظاهر في أواخر الثمانينيات بأنه فلسطيني، وكشف عن العنصرية التي تُمارس ضدهم من قبلنا نحن الإسرائيليين. كان يجب أن أرى بنفسي كي أكتب وأوثق ذلك كله. طوال هذا الوقت، كان يعذبني شعورٌ واحد: حبكَ يا فارس! أنا يهودية إسرائيلية وأنت فلسطيني مسلم. ما زاد المسألة سوءاً أن أختي واقعة بحبك هي الأخرى! الأسوأ أن جدران الكراهية عالية بين شعبينا إلى درجة لا يمكن تخيلها يا فارس... لا يمكننا أن نكون لبعضنا البعض. هذا مستحيل".
بعد أن انتهت من كلامها، قال: "ما أوجه أن تغادرا غزة الآن، بقاؤكما هنا خطر. ماذا لو اكتشف الناس حقيقتكما؟ سيكون الوضع خطيراً جداً. وأود الاعتراف أنا الآخر: أنا أحبكِ، ولكن بعد اعترافكِ؟ ينبغي القول بضرورة خروجكما من هنا. ما أخشاه أيضاً يا أنستازيا أن أراكما أنتِ وشقيقتكِ في حربٍ ما تحملان السلاح ضدنا. هل أجدكِ عند حاجزٍ عسكري ما، وأنا في رحلة علاج لي أو لأحد أفراد عائلتي؟
تنهد بعمق، فيما كان صوته مثخناً بالشجن وهو يكمل: "عاصرتُ الانتفاضة الأولى، ورأيتُ بشاعتها أمام عيني: هل تعلمين ما هو مصيري لو كانوا قد أمسكوا بعلم فلسطيني معي وقتها؟ ستة أشهر من الحبس! ولم؟! لمجرد حمل علم بلادي! رأيتُ كيف كانوا يكسرون أيدي الأطفال، ويسجنونهم ويعذبونهم. رأيتُ في الانتفاضة الثانية أيضاً كيف ازدادت درجة العنف فيما بيننا إلى حدٍ بعيد. إننا نتقاتل بشكل دموي يا حبيبتي ولا أمل لحبنا في أن يتوج بالاتحاد بين روحينا".
رغم إرادته، أصرتْ كلتا الأختان على البقاء ومتابعة ما سيجري على الأرض. استطاعت القوات الإسرائيلية احتلال أجزاء مهمة من القطاع وتقسيمه إلى ثلاثة أجزاء، فيما كانت الدبابات الإسرائيلية تقترب بخطى متسارعة من غزة. فرغ حَيُّهُ من السكان: كان عليه نقل أسرته لبيت خالته في حي "الرمال"، مع "الشقيقتين". جارهم الثمانيني رفض الخروج من بيته رغم إلحاح أولاده: لقد أخرجوني من بيتي في مدينة المجدل قبل واحد وستين عاماً. جاءوا بعدها مرتين لاحتلالنا هنا، وما زالوا يتحكمون في حياتنا حتى اليوم. تعبتُ من الفرار! إن شاءوا فليقتلوني هنا ويريحوني! سيكون مكان انتقالي المقبل للقبر فقط!".
انتهى العدوان أخيراً، بعد 23 يوماً. كان عليهما بعدها مغادرة القطاع. عانقتهما أمه وشقيقته لين بقوة عند الوداع، فيما كان التأثر بادياً على والده وشقيقه أحمد. تساءل: "ترى لو علموا أنهما يهوديتان إسرائيليتان، هل ستبقى ملامحهم ودودة؟".
خرجتا من غزة عبر معبر رفح، بجوازيهما الرومانيان، وبقي التواصل معهما مستمراً كقصة حب بلا أمل. جاء عام 2012 بعدوان إسرائيلي جديد على غزة: لكن الصواريخ انهالت عليه بمقدار الضعفين والنصف زيادة عما كانت الحال عام 2008. في اليوم التالي قابل أحد جيرانه وبادره بالقول باسماً: "سمعت؟ وصلت صواريخ "حماس" و"الجهاد" إلى تل أبيب!".
شعورٌ ما زلزل كيانه وهو يسألهُ: "هل من إصابات؟"، قال له جاره وقد تفاجأ من ردة فعله "لا يوجد جرحى حتى اللحظة. ولكن لِمَ تسأل؟". سأله: «هل وصلت إلى حي رامات أفيف؟». «رامات ماذا؟». قال محدثه. تركه ومضى يسترجع مشهد خروجهما من غزة، عبر معبر رفح من جديد. كان آخر ما همست به أنستازيا في أذنه بلغتها الإنكليزية ذات اللكنة المميزة: "حبيبي فارس لا تنسنا. هناك قلبان يخفقان بحبك في "تل أبيب"..."، ثم اختفت من أمام ناظريه.
كان ذلك نهاية كانون الثاني 2009. لم يشعر وقتها بالمطر الذي بلله تماماً. في ذلك العام، كانت المرة الأولى التي تمطر فيها السماء منذ بداية ذلك الشتاء الساخن، والآن؟ إنها تمطر مجدداً قنابل وصواريخ... لعلها تمطر غداً حباً وأملاً!

* يامن نوباني