غزة | غضبت فنانة غزّاوية شابّة حينما تعجبتُ من رغبتها الشديدة في أن تكون سفيرة فلسطين للنيات الحسنة، غضبت كثيراً وكأنّ استغرابي يُهينها بعض الشيء، يخفض من قيمتها، وقد طفقت تتباهى بعلاقاتها مع كبار المسؤولين الذين وعدوها وعداً حقاً بأنّها ستُحقق مرادها قريباً بنيل هذا اللقب العظيم الذي لطالما طمحت إلى الحصول عليه!
الكلام الكثير الذي قيل لها، كما شرحت لي، هو من النوع الذي يسُرّ له قلب الإنسان، خصوصاً حينما يتعلّق الحديث بحلم صبية في السادسة والعشرين من عمرها بالتحليق والشهرة والخروج من مربعها الصغير المحاصر. لكن، كيف يستطيع أن يصارح الأمر صبية مثل هذه بأن هذا النوع من الأحلام صادم في الحقيقة، وهو صادم لدرجة أنّه يدفع الشخص إلى السباب. فهل هذا هو مرمى آمال شبابنا اليوم؟ حلم فردي يسمح لصاحبته بالارتفاع فوق مستوى بقية المواطنين؟ يخلصها من «معاناتها» كفلسطينية مواطنة عادية يجري عليها ما يجري على الآخرين؟ وما معنى أن يكون المرء سفيراً، لنيات حسنة أو سيئة، إن لم يكن لديه وطن؟ وطن معترف به وحر من الاحتلال؟ ما معنى هذه السفارة لمواطنة يحتل العدو أرضها؟
إحساس بالقهر يجتاحك وأنت تتأمل شدة اقتناع هذه الصبية بحلمها، في الوقت الذي تتذكّر فيه أنّ أصدقاء لك (وعلى الأرجح لها أيضاً) وأقرباء كثر (لك ولها كذلك)، ما زالوا عالقين على حدود معبر رفح الفاصل بين مصر وقطاع غزة، يترقّبون لحظة بلحظة أن يحنو عليهم القيّمون على المعبر، فيفتحوا لهم ذراعيه ولو لمجرد سويعات، تسمح لهم بالعودة إلى أحضان وطنهم، غزتهم العنيدة.
هكذا، أعلق بين التعاطف معهم من جهة وبين صبية تحلم بأن تكون سفيرة، وأخريات وآخرين مثلها! أتهجأ هذا اللقب الفخم، أعني "سفيرة" طبعاً، وتبقى ترنّ الكلمة في أذني، مفخّمة زيادة عن اللزوم كما تلفظتها تلك الشابّة متباهية!
هل أصبح مجتمعنا الحقيقي على هذه الصورة؟ أم أنها مفارقة درامية؟ هل بالفعل هذا ما بات عليه شكل مجتمعنا الفلسطيني؟ كانت الإجابة تفيد دائماً بأنه منذ زمن، كانت فلسطين أكثر انسجاماً، مع أنها كانت أكثر تشتتاً، لكنها كانت تجتمع حول أولويات مشتركة تتعلق بتحرير الوطن، والعودة إليه، وتوحيده ومصالحته مع مختلف مكوناته. اليوم، أصبحت الأحلام تحلق وحيدة. كل يغني على ليلاه، والكل يقول: اللهم نفسي. قال لي الأكبر سناً إن مجتمعنا كان هكذا، لم يكن مفتتاً بهذا المقدار. هكذا قالوا. قد يكون ما قالوه صحيحاً، وقد أكون أصدق، إرادياً، صوراً من محض الخيال، اختلقها الناس فقط من باب الرأفة بأنفسهم ولكي يستطيعوا أن يكملوا الطريق.
من يدري؟ المهم أن يجد كل منا القدرة والوسائل اللازمة لكي يستطيع الاستمرار. ربما هذا هو المهم. لا أدري.