«احذر أن تزرع إسرائيل برأسكَ حصّن رأسَكَ
وابدأ بسلاحٍ أبيضَ منه
هجوماً بعد هجومٍ يا ولدي
لا نصر بدون هجوم»
[مظفر النواب]



تعدّ وراثة بنيامين نتنياهو لليمين الإسرائيلي، في شق منها، حرفيّة المعنى: فقد خلف والده، بن صهيون نتنياهو، زئيف فلاديمير جابوتنسكي، أبا حركة اليمين والصهيونية التحريفية والأب الروحي لنتنياهو الابن، في زعامة الحركة (كان بن صهيون سكرتير جابوتنسكي الشخصي). وإذا كان جابوتنسكي واضع الأساس النظري لعقيدة «الجدار الحديدي»، فإنّ نتنياهو الابن لم يترجم النظرية إلى بناء جدار حديدي فعلي حول غزة، فحسب، بل سعى في تطبيق رؤية أخرى تضمّنها طرح جابوتنسكي، والذي صاغه في مقاله الشهير «في الجدار الحديدي»، وهو تجاوزُ الشعب الفلسطيني إلى التطبيع مع العرب الأبعدين.
قامت فكرة جابوتنسكي على رفض التأنّي التكتيكي للعمّاليين واليسار الصهيوني في تعاملهم مع العرب، إذ أقرّ بوجود الفلسطينيين كشعب حيّ حقيقي لا يتوقّع منه، كأيّ شعب أصلاني في أيّ تجربة استعمارية على طول التاريخ لا تشذّ عنها سابقة، إلا أن ينبذ الاستعمار ويكافحه حتى النهاية. ما طالب به الصهيوني التحريفي ببساطة هو: المواجهة بصفاقة عارية مع الفلسطينيين، وعدم الرهان على أيّ طريق ملتوية لاحتوائهم كالقبول بقرار تقسيم فلسطين. يتقوّم ذلك بتشييد حائط فولاذي بوجه مقاومتهم الأكيدة القادمة: الجدار بالمعنى الرمزي لا الحرفي، أي أن تمتلك الحركة الصهيونية قوة عسكرية مختلّة التوازن لمصلحتها تجعل أيّ فعل مقاوم لاستعمارها يصطدم باستحالة تحقيق نتائج، إلى أن يقيم اليأس في رؤوس العرب من كسر هذا الواقع.
هكذا توارثت الصهيونية أفكارها، واستولدت من لدن عقائدها تكتيكات واستراتيجيات أمنية وعسكرية وسياسية ملموسة، تصلنا اليوم بطفراتها الكثيرة (تدفيع الثمن، الردع، التوازن، التفوق، تكسير العظام، جزّ العشب، إلخ)، التي أمدّت إسرائيل بالحياة وصنعت مكانتها المعهودة... حتى جاء السابع من أكتوبر.

■ ■ ■


يقول ثيودور هرتزل في «دولة اليهود»: «بالنسبة إلى أوروبا، سنمثّل جزءاً من السدّ أمام آسيا، وسنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية، وسنبقى كدولة متحالفين مع أوروبا التي ستضمن في المقابل وجودنا». الشاهد في استدعاء المقولة الشهيرة لمؤسس الصهيونية هو مفهوم «القلعة» وتخادمها الوثيق مع الغرب، وهذا التصوّر الهرتزلي هو بالضبط ما قامت عليه إسرائيل، من حيث علاقتها بالغرب، مع كل من حاييم وايزمن وبن غوريون وخلفائهما. والشق الآخر من الفكرة إياها، وهو أن تكون القلعة «قلعةً»، أي الأدوات الأمنية والعسكرية والتكنولوجية، يتقاطع مع عقيدة جابوتنسكي، ونجده في عدة تطبيقات، واحد منها «عقيدة بيغن» كذروة لفكرة التعامل مع المحيط الإقليمي عبر المنع الاستباقي للآخرين من امتلاك أسلحة الدمار الشامل وكسر الاحتكار الإسرائيلي لها. تُجمع الصهيونية، إذاً، على أن «التفوّق» يحمي إسرائيل ويديمها «قلعة».
جاء السابع من أكتوبر وكشف لنا القلعة في تمام العراء والاضطراب الوظيفي والحاجة الماسّة إلى هذا المغذي الغربي


إلا أن إيلان بابيه، في «التطهير العرقي»، يتنبّه إلى زيف فكرة «القلعة» وما يترتّب عليها، مشبّهاً الحال بالمرحلة الأخيرة للغزو الصليبي بعد حطين: «إنّ هذا الوضع ليس مختلفاً عن وضع الصليبيين الذين بقيت مملكتهم في القدس قرناً كاملاً تقريباً جزيرة منعزلة محصّنة، بينما هم محتمون في قلاع حصينة ضدّ الاندماج مع جيرانهم المسلمين، وأسرى واقعهم المشوّه. ونجد مثالاً حديثاً لمثل عقليّة الحصار هذه في المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا في أوجه فترة حكم الفصل العنصري، ولم يصمد طموح البيض إلى المحافظة على رقعة نقيّة عرقياً بيضاء مثل الصليبيين في فلسطين إلى فترة تاريخيّة وجيزة، قبل أن تنهار».
فضلاً عن ملاحظة بابيه، ظلّ التصوّر يفتقر إلى القوة الذاتية وظلّ، أيضاً، معتمداً على المدد الغربي مهما تبجّحت الصهيونية، عن حق، بأنها تبادل الغرب خدماته... حتى جاء السابع من أكتوبر وكشف لنا القلعة في تمام العراء والاضطراب الوظيفي والحاجة الماسّة إلى هذا المغذي الغربي.

■ ■ ■


إنّ روح المبادرة والتوثّب، المنقطعة النظير في شجاعتها وإحكامها، لدى قائد المقاومة محمد الضيف وإخوانه، تتضافر أهميتها على نحو استثنائي في تاريخ الصراع، لكونها، إلى جانب إنجازاتها الميدانية، أصابت بالضبط هذه الأصول النظرية؛ هي طعنة أُنزلت بـ«فكرة إسرائيل» من بوابة ضرب الإجراءات التطبيقية للصهيونية: قلعة حصينة وراء حائط فولاذي.
الثغرات الثمانون التي عُثر عليها في الجدار الحديدي، ثاني أيام «الطوفان»، حسب الإحصاء الذي أفادت به القوات الإسرائيلية الإعلامَ العبري، كانت ثغرات، كذلك، في التراتبية التي تفرضها الهيمنة على «الآخر» على نحو عنصري، لا استغلالي احتكاري فقط، وهو نسخة المركز الغربي المكملة من سياسة «الفصل العنصري» على مسرح عالمي والمنكشفة هذه الأيام: «أبارتهايد تكنولوجي» (ممنوع أن تتفوّق علينا) تبعاً لـ«أبارتهايد حقوقي» (تجريد الفلسطيني من إنسانيته ومن حقه في الدفاع عن النفس).
أثناء حرب 2006، كتب جوزيف سماحة مقالاً بعنوان «ثغرة في الجدار» معتبراً أن ما قامت به المقاومة صدّع «جدار جابوتنسكي» وهذا البناء النظري. بعد 7 أكتوبر، لا يبدو مبالغة اعتبار أن الثغرات الثمانين في جدار غزة كانت بمثابة الزلزال الذي هزّ «الفكرة»، فكرة القلعة المتفوّقة برمّتها، على رجاء أن تنسحب ارتدادات هذا الزلزال على «أفكار» أخرى تتناسل من الهيمنة الغربية وتلوّث الفضاء العربي وترفع جدرانها فيه.