كشف العدوان الإسرائيلي أمس على قطاع غزة، مفاعيل مفاجأة عدم الردّ الفوري والتلقائي من قِبل المقاومة على عملية اغتيال ثلاثة قادة من «سرايا القدس». بدا المستويان الأمني والسياسي مرتبكَين بفعل «التكتيك» الجديد، غير المسبوق، الذي اتّبعته المقاومة. إذ لم تتوالَ التطورات الميدانية وفق السيناريو الذي شكّل مُنطلقاً لقرار الاغتيال، ما أدى إلى انتشار حالة من الرعب في مستوطنات الجنوب، وصولاً إلى تل أبيب التي فتحت ملاجئها منذ أول من أمس. وتحوّل «الهدوء» الذي أعقب العملية، إلى عامل ضغط على المستويَين الشعبي والسياسي في إسرائيل، منتجاً حالة حيرة لدى المستوى الرسمي حول كيفية التعامل معه: فإن أعطى الأخير تعليماته بخروج المستوطنين من ملاجئهم بهدف مواصلة حياتهم الروتينية، فهو سيجعلهم عُرضة لقصف صاروخي مفاجئ يتسبّب بنتائج خطيرة؛ وإن أوصاهم بالبقاء في ملاجئهم، واستمرّت حالة التعطيل حتى من دون إطلاق الصواريخ، وقع تحت وطأة السؤال عن المدى الزمني لهذه الحال. وتخوّفت قيادة العدو من أن يستمرّ ذلك إلى يوم «مسيرة الأعلام»، التي تقام في ذكرى احتلال القدس عام 1967، وفق التقويم العبري، والتي تصادف الخميس المقبل.
عندما أرادت إسرائيل ترميم صورة ردعها الذي تآكل بفعل المقاومة، عمدت إلى اختيار الساحة الأضعف (أ ف ب)

في ضوء ما تَقدّم، أجرت أجهزة العدو «تقدير موقف» حول كيفية إنهاء هذه الحالة «البرزخية»، وخلصت إلى ضرورة وضع حدّ لنجاح المقاومة في جبي أثمان معنوية وسياسية واقتصادية بفعل حالة الشلل الواسع في الكيان، من دون إطلاق أي صاروخ. ومن هنا، أتى القرار باستئناف الغارات على القطاع، والذي دفع المقاومة إلى الردّ الصاروخي الذي طاول تل أبيب ومحيطها. وشكّل ذلك إقراراً عملياً بأن قيادة العدو تدرك بأن الهدوء الذي ساد في أعقاب عملية الاغتيال، لم يكن سوى تكتيك جديد، هدفه إبقاء إسرائيل في حالة من الاستنفار والشلل، قبل أن يأتي الردّ الفلسطيني.

رسائل الردّ الفلسطيني
كشف البيان الصادر عن «غرفة العمليات المشتركة» أن الردّ الذي حمل اسم «ثأر الأحرار»، أتى تعبيراً عن إرادة كافة الفصائل التي تتشكّل منها الغرفة. وبذلك، أُحبطت محاولة العدو إحداث شرخ بين الفصائل. كما أظهرت «سرايا القدس»، من خلال ردّها الصاروخي، قدرتها على احتواء نتائج استشهاد ثلاثة من أهمّ قادتها العسكريين، واستطاعت تنفيذ رد عسكري منظّم، وأسقطت «النظرية» القائلة إن تأخر الردّ عائد إلى الإرباك والفراغ وتعطّل منظومة القيادة والسيطرة. كذلك، فإن وصول الصواريخ إلى تل أبيب وجوارها، بدّد أيّ أوهام تتعلّق بالمفاعيل الردعية لعملية الاغتيال، على اعتبار أن كلّ اغتيال لقائد سياسي أو عسكري، يهدف أولاً إلى معاقبة الشخص المستهدف والجهة التي ينتمي إليها، وردعها، ومن ثمّ إيصال رسالة إلى بقيّة الأحياء بأنهم على المهداف، إن واصلوا خيار المقاومة. لكن الردّ في اتجاه تل أبيب ومحيطها، والذي يشكّل تجاوزاً للسقف التقليدي المنحصر بمستوطنات «غلاف غزة»، جلّى قوة التصميم وصلابة الإرادة لدى المقاومة، في ما يمثّل العنصر الأهمّ في المشهد، والذي ينبغي أن يقرأه العدو جيداً، كونه يساهم في التأسيس لمفاهيم وتقديرات، وإسقاط أخرى.
الرد أتى تعبيراً عن إرادة كافة الفصائل التي تتشكّل منها «الغرفة المشتركة»


على أيّ حال، فإن الحقيقة التي ينبغي أن تبقى حاضرة، هي أن إسرائيل التي تشكّل بمعايير معينة «دولة» إقليمية عظمى بقدراتها التكنولوجية والعسكرية والتدميرية، عندما أرادت ترميم صورة ردعها الذي تآكل بفعل المقاومة، عمدت إلى اختيار الساحة الأضعف، أي قطاع غزة، بفعل صعوبة الظروف هناك. وتعمّدت أن يقتصر استهدافها على «سرايا القدس»، لأسباب متنوّعة، من ضمنها محاولة تحييد حركة «حماس» ميدانياً. على أن هدف إسرائيل بعيد المدى، بحسب مستشار نتنياهو السابق لشؤون الأمن القومي، مئير بن شبات، هو «نزع سلاح المقاومة، وتحييده أمنياً، وأن يكون قطاع غزة تحت سيطرة كيان قوي يعترف بإسرائيل». وإن كان هذا الهدف، كما يقرّ بن شبات أيضاً، «غير واقعي»، في ظلّ المعادلة القائمة، فإن «أمام إسرائيل خيارَين في التعامل مع التحديات الأمنية»، ينطوي كلّ منهما على مخاطر بالنسبة للكيان، وهما:
الأول، احتلال قطاع غزة، واستبدال الحكومة من خلال عملية عسكرية واسعة وعميقة، تكلفتها المباشرة وغير المباشرة باهظة، ومدّتها غير واضحة، فضلاً عن أنه لا يوجد طرف آخر يمكنه تولّي زمام القيادة والحكم هناك.
والثاني، هو الخيار المعروف باسم «الجولات»، أي الحفاظ على الهدوء عن طريق الردع الذي يتحقّق في جولات القتال، مع بذل جهد لتقليل مدّة كلّ «جولة»، واستخدام أدوات الضغط والحوافز في أيام الهدوء، ما سيزيد من تكلفة الخسارة، ويجعل الهجمات على إسرائيل «غير مجدية»، وهذا هو النهج الذي تتعبه تل أبيب في هذه المرحلة، ولا يُتوقّع أن يتغير حتى بعد الجولة الحالية.
ويعترف بن شبات بأن نقطة ضعف هذه الاستراتيجية، تنبع من كون «الهدوء الذي يسود في أعقاب كلّ جولة، سيكون دائماً مؤقّتاً وهشاً». ومن الواضح أن صورة الوضع التي قدّمها مستشار نتنياهو السابق، ليست إلا نتيجة إقرار بفشل إسرائيل الاستراتيجي في التعامل مع المقاومة في القطاع وضيق خياراتها، وهو ما يضطّرها إلى اعتماد سياسة «إدارة المخاطر» القائمة على قاعدة اختيار الأقلّ خطورة. وهذا بحدّ ذاته إنجاز استراتيجي للمقاومة ومن يدعمها، حيث استطاعت أن تفرض على كيان العدو معادلات ما كانت تخطر على بال قادته السابقين واللاحقين، وتؤسّس لواقع أثبت أنه قادر على أن يسلب الكيان الشعور بالأمن، وأن يشلّ فيه حركة الحياة.



توضيح
ورد في عدد السبت الماضي من «الأخبار» تحت عنوان: السلطة تتحضّر لقمة أمنية جديدة | تل أبيب لرام الله: الغاز مقابل مقارعة المقاومة، أن القمة المقبلة سيحضرها مستشار الرئيس محمود عباس، أحمد الخالدي، والصواب: مجدي الخالدي؛ فاقتضى التوضيح.