تداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، في الأيام الماضية، مقطعاً مصوَّراً لاعترافات العميل المقتول، زهير الغليظ، من البلدة القديمة في نابلس، والمتورّط في تصفية قادة مجموعة «عرين الأسود»، محمد العزيزي وعبود صبح وأدهم مبروكة (الشيشاني) ومحمد الدخيل وأشرف مبسلط. لم يكن زهير أوّل عميل للاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الاستخبارية، إلا أنه أوّل عميل أعلنت المجموعة اغتياله بعد رحيل خيرة شبابها، واشتداد سعي العدو لاستنزاف مواردها، لتستعيد بهذا زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حيث حُكِم بالإعدام على كلّ مَن ثبت تعامله مع المحتلّ. تلفت هذه الحادثة النظر إلى خطورة «الإسقاط» أو تجنيد العملاء الذي يمارسه الاحتلال لكشف ظهر المقاومة، لكنها تشير إلى ما هو أعمق من ذلك: مستوى الحسّ الأمني الفلسطيني والتعامل مع المشتبه بهم من العملاء بما يخدم تحصين الجبهة الداخلية.
سقط زهير، أخلاقياً ووطنياً، بالتجسّس لصالح الاحتلال «عن طريق الفيديو» بحسب ما ذكر في اعترافاته، وهي طريقة إسرائيلية شائعة في توريط الفلسطينيين في التخابر، حيث يعمد «الشاباك» إلى استدراج الشباب إلى ممارسات غير أخلاقية مِن مِثل تصويرهم بمساعدة أحد الأقارب أو الأصدقاء في أوضاع مشينة أو تعاطيهم للمخدّرات، إلى جانب الإغراء بالمال أو اختراق الهواتف المحمولة أو استغلال الخلافات الشخصية أو المساومة على الحقوق الأساسية مِن مِثل تصاريح العمل أو العلاج أو التعليم. عام 2017، استشهد الطالب أحمد شبير (17 عاماً) لمشكلة في القلب، بعد أن فضّل الموت على علاجه مقابل التخابر. لكنّ العميل أو الجاسوس أو «السيعانيم» بالعبرية، والذي يتعرّض لابتزاز العدو، يقع في أزمة الخيارات المحدودة ما بين الفضيحة أو الخيانة، ومع تعمّق تورطه، يصبح خوفه من شعبه أكثر من خوفه من الاحتلال لأن انكشافه يعني مقتله.
تسعى المقاومة لقتل العملاء انتزاعاً لحق الشهداء وردعاً للنفوس الضعيفة، وهو ما عبّر عنه بيان «عرين الأسود» إثر اغتيال زهير، والذي جاء فيه: «نُوجّه رسالتنا لكلّ خائن... لن يحميكم أحد ولو تحصّنتم»، مع الإشارة، هنا، إلى أن المقاومة توانت في مرّات كثيرة عن قتل العملاء و/أو التشهير بهم، سعياً لكشف شبكة أوسع من الخونة، كما حصل في حادثة «فكّ الشيفرة» التي أسفرت عن اعتقال 45 عميلاً ساهموا في اغتيال الشهيد مازن فقها، أو لحقن النزاعات الأسرية، أو منعاً للثأر الذي راح ضحيّته مثلاً الأسير المحرَّر جبر القيق، على أيدي شبّان من عائلة الصوفي، كان القيق قد قتل والدهم في الانتفاضة الأولى. ونفّذت «العرين» أمر اغتيال زهير من دون اللجوء إلى النيابة العامّة التي يحقّ لها توجيه تهمة الخيانة والمعاقبة عليها بالإعدام بحسب قانون أصول المحاكمات الجزائية الثوري لعام 1979، وذلك لأن السلطة الفلسطينية تخاذلت عن تنفيذ العقوبات في ملفّ العملاء. فعلى سبيل الذكر، استشهد أحد قادة انتفاضة الأقصى، باسم أبو سرية/ القذافي، عام 2007، بعبوة ناسفة لاصقة، بمساعدة العميل عميد رطروط الذي لم يتمّ تنفيذ حُكم الإعدام بحقّه، ليُغتال تامر الكيلاني في تشرين الأوّل 2022، بمساعدة زهير، بالطريقة نفسها.
يتيح ضعف الحسّ الأمني، وهشاشة البناء التنظيمي للفصائل، الثغرات أمام العملاء


«كروز دخان مالبورو و500 شيكل تعادل أقلّ من 150 دولاراً»؛ هذا ما كافأ به الاحتلال زهير على عمالته. مكافأةٌ بخسة ليست مستغربةً البتّة؛ فالعميل ليس منبوذاً من مجتمعه الفلسطيني فحسب، بل من الاحتلال أيضاً. يقول العميل في اعترافاته إن الإسرائيليين غطّوا عينيه حتى معسكر حوارة، أي أن خيانته لشعبه لم تكن كافية لأن يثقوا به، حاله حال أكثر من 4 آلاف عميل رفض الاحتلال منْحهم تصاريح إقامة، بعد أن أغراهم باحتضانهم وتحسين مستوى معيشتهم. وحتى عندما منح العدو أشهرَ عملائه، عبد الحميد الرجوب، شقّة في أحياء يهودية في اللد والقدس ليشعر بـ«الأمان»، رفض المستوطنون الإسرائيليون وجود عربيّ إلى جانبهم، ليجري نقله إلى عسقلان، حيث أنشأ الاحتلال لاحقاً قريةً للعملاء. تتبّع زهير تحرّكات المقاومين، ليبلّغ ضابط الاحتلال بآخر مكان شاهد فيه الشيشاني «قاعد عند الجامع الكبير عند النبعة»، وساعد بشكل مباشر في الاشتباك الذي قضى فيه أبو صالح العزيزي. بدءاً من الردّ على اتّصالات مشبوهة أو عقد مقابلة تعارف، وصولاً حتى تأهيله لزرع عبوة ناسفة أو تدريبه على استخدام الأسلحة، يجري تدجين العميل من قِبَل الاحتلال الذي يضمن بهذه الطريقة المتدرّجة ولاء الجاسوس وخضوعه له.
ولا يستخدم العدو الهواتف المحمولة لتجنيد العملاء فحسب، بل أيضاً لملاحقة المطارَدين الفلسطينيين، الذين تزخر مواقع التواصل الاجتماعي بصور ومقاطع مصوَّرة لهم ولأسلحتهم ومنازلهم وأماكن تنقّلهم ورفاقهم ولحظات اشتباكهم، بل إن للعميل زهير نفسه صوراً مع معظم قادة «عرين الأسود»، بمن فيهم الكيلاني الذي ساهم هو في مقتله. تاريخياً، لُقّب المطارَد بـ«المحروق»، وحُظر عنه التواصل مع أيّ شخص. «يغيّر المطارَد مكانه كلّ يوم تقريباً، من دون تكرار الأماكن التي يختبئ فيها، ويمارس أساليب التخفّي والحذر، منها حلاقة اللحية وتغيير الألبسة وعدم استخدام الخدمات العامة»، كما يقول المطارَد السابق محمد مرداوي، إذ إن أجهزة المخابرات الصهيونية تعمل على مراقبة الأجهزة وتعقّب حامليها والتنصّت عليها واختراق كاميرات المراقبة وزرع الماسحات الضوئية البيومترية. وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» تقريراً ذكرت فيه أن الاحتلال استخدم برنامج «بيغاسوس» لاغتيال قادة «عرين الأسود»، وهو برنامج للتجسّس تمكن زراعته على الأجهزة بهدف استرداد الملفّات منها، وتشغيل الكاميرا والميكروفون، والوصول إلى موقع الجهاز، وعرض جهات الاتصال، والتقويم، ومتابعة المراسلات، ونشاط تطبيقات المراسلة الأخرى على الشبكات الاجتماعية.
يتيح ضعف الحسّ الأمني، وهشاشة البناء التنظيمي للفصائل، الثغرات أمام العملاء، وهو ما يفصّله الباحث أحمد البيتاوي في كتابه «العملاء والجواسيس الفلسطينيون: عين إسرائيل الثالثة»، متحدّثاً عن عدد من المظاهر والسلوكيات السلبية التي يمارسها الأفراد نتيجة ضعف الوعي الأمني، وأبرزها الثرثرة، والفضول، والتدخّل في أمور الغير، والميل إلى التفاخر، وحبّ الظهور، والاستعراض، والمباهاة، والثقة المفرطة بالآخرين. أمّا على الصعيد الفصائلي، فتبرز إشكاليات انكشاف التنظيم والكوادر من خلال المهرجانات المختلفة، والانتخابات الداخلية العلنية، وسهولة الانضمام إليها من دون انتقاء أو اختبار لخلفية المنتسبين الجدد، وهلامية الخلايا العسكرية وتشعّبها، وكثرة أعداد عناصرها ومعرفة بعضهم ببعض.
تتّخذ نتائج العمالة أشكالاً مختلفة، ما بين اغتيال القادة وإحباط العمليات الفدائية وتسهيل تسريب الأراضي لليهود وتجارة المخدرات وغرف العصافير، لكن أخطر ما فيها إغفالها، ولا سيما أن الاحتلال يَعتبر حربه مع المقاومة أمنية قبل أن تكون عسكرية. وعليه، فالمطارَد ليس نجماً، والحسّ الأمني في التنظيمات العسكرية ليس ترفاً أو مسؤولية فردية، بل تستدعي ظاهرة العمالة ودورها في تصفية المقاومين الانتقال من مواجهة النتائج والتبعات إلى التحليل ومعالجة الأسباب، حتى لا تضيع دماء الشهداء في مواجهة احتلالٍ لا يتوانى عن استهداف الشباب وتقصّي معلوماتهم، حتى لو كان مصدرها حلقة تلفزيونية.