رام الله | لم تفعل قمّة شرم الشيخ أكثر من اجترار المقرّرات المعلوكة نفسها التي خرجت بها قمّة العقبة، وسط اقتناع ضمني لدى المشاركين فيها بأن تلك المقرّرات ستبقى «حبراً على ورق»، فيما تسعى راعِية القمّتَين وما سيليهما، أي الولايات المتحدة، إلى ترجمتها وإنفاذها على الأرض قبل حلول شهر رمضان. لكن هذه المساعي تبقى شديد القصور، ومفارِقة للواقع الذي يزداد يوماً بعد يوم غلياناً وتعقيداً؛ إذ إن طبيعة السلطة الحاكمة في إسرائيل تشي بأن فكرة «حسم الصراع» مع الفلسطينيين باتت هي الحاكمة في الدولة العبرية، فيما السلطة الفلسطينية تَظهر عاجزة عن القيام بالمهام الأمنية المطلوبة منها، على رغم إبدائها كلّ استعداد لذلك. أمّا المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلّة، فإن جميع المعطيات تشي بأنها باتت أكبر من أيّ مشروع لوقفها واجتثاثها، وأن حافزيتها لتنفيذ مزيد من العمليات ضدّ جنود الاحتلال ومُستوطِنيه لم يَعُد من الممكن إخمادها أو حتى إضعافها
كما كان متوقّعاً، عكست مخرجات اجتماع شرم الشيخ الخماسي، والتي لم تختلف عن نظيرتها في اجتماع العقبة، جوهر سياسة الإدارة الأميركية في التعامل مع الملفّ الفلسطيني، والقائمة على إدارة الصراع من دون السعي إلى إيجاد حلول له. ويترجَم ذلك حالياً بالاشتغال على تعزيز قنوات التواصل بين الفلسطينيين وحكومة الاحتلال اليمينية، بما يهدف بالدرجة الأولى إلى تلبية المتطلّبات الأمنية الإسرائيلية، وتحديداً لناحية اضطلاع السلطة الفلسطينية بمهمّة مواجهة حالة المقاومة في الضفة، وتحقيق التهدئة ووقْف التصعيد، ولا سيّما على أبواب شهر رمضان. هذه الخلاصة انعكست في البيان الختامي للاجتماع، وتحديداً النقطة الأولى منه، والتي نصّت على «ضرورة تحقيق التهدئة على الأرض والحيلولة دون وقوع مزيد من العنف»، واتّخاذ إجراءات لـ«بناء الثقة وتعزيز الثقة المتبادلة وفتْح آفاق سياسية والتعاطي مع القضايا العالقة عن طريق الحوار المباشر».
على أن الفلسطينيين يدركون أن تعهّد حكومة الاحتلال بوقف الإجراءات الأحادية مِن مِثل الاستيطان لفترة زمنية قصيرة، إنّما هو مفرغ من القيمة، شأنه شأن الالتزام بالتحضير لإطلاق عملية سياسية، وأن ما جاء في تلك البنود ما هو إلّا ديباجة إنشائية غرضها تزويد السلطة بوسائل دفاعية أمام شعبها، لدى إقدامها على تنفيذ التعهّدات المفروضة عليها، وعلى رأسها القيام بمسؤولياتها الأمنية في المنطقة «أ» في الضفة الغربية، و«التعاون» مع الجانب الإسرائيلي من أجل تحقيق هذا الهدف، واستحداث آلية للحدّ من العنف، وأخرى لتحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين. وهكذا، تُكرّس مخرجات «شرم الشيخ»، مجدّداً، الوظيفة المحدَّدة للسلطة بوصفها وكيلاً أمنياً لا يتجاوز التعامل الأميركي - الإسرائيلي معه ذلك الإطار، فيما يَجري تغييب أيّ خطّة سياسية ولو صُورية، فضلاً عن تجاهُل الوعود التي قطعتْها إدارة جو بايدن للجانب الفلسطيني قبل دخولها البيت الأبيض. تجاهلٌ يقابله الاستنفار والتحرّك المستعجل عقب كلّ تصعيد في الأراضي الفلسطينية من أجل احتوائه سريعاً، وهو ما دلّ عليه بوضوح أوّل اتّصال أجراه بايدن بالرئيس محمود عباس خلال معركة «سيف القدس»، في حين أوقفت إسرائيل المفاوضات مع السلطة الفلسطينية منذ عهد باراك أوباما رافضةً مذّاك العودة إليها.
يدرك المقاومون في الضفة الغربية أن رأسهم هو المطلوب من اجتماعَي العقبة وشرم الشيخ وما سيَعقبهما


وإذ أَغفل بيان «شرم الشيخ» استمرار الاحتلال في جرائمه، وتنكُّره لكلّ ما أُنجزَ من اتّفاقيات وقرارات دولية، فقد ساوى عملياً بين الضحية والقاتل، لدى إيراده حديثاً عامّاً وفضفاضاً عن وضع حدّ للعنف، يبدو أقرب إلى أن ينحصر بالعنف الفلسطيني. وفي هذا الإطار، أعادت المخرجات تصدير خطّة الجنرال الأميركي، مايكل فينزل، بوصفْها الحلّ الأمثل لإعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على جنين ونابلس، من خلال تعزيز قوّة الأجهزة الأمنية ودعْمها، ورفْع مستوى «التنسيق الأمني» مع إسرائيل بوجود طرف ثالث يتمثّل في الضبّاط الأميركيين. وعلى رغم ما بات واضحاً من أن تلك الخطّة تحمل في طيّاتها بذور اقتتال داخلي في الضفة، كونها تعني حتماً اصطدام الأجهزة الأمنية بمجموعات المقاومة وحواضنها، فإن الإدارة الأميركية تبدو مصرّة على المضيّ فيها، وهو ما ينبئ به سعيها إلى تحويل «العقبة» و«شرم الشيخ» إلى اجتماعات دورية تحت العنوان الأمني حصراً، وتشكيلها غرفة عمليات مشتركة إقليمية من أجل متابعة الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية والعمل على منْع تَفجّرها، سيكون من شأنها أيضاً منْح حكومة اليمين الفاشي بعض الشرعية السياسية الدولية، وخاصة في ظلّ الانقسام المتصاعد حولها، والعزلة التي يعانيها العديد من وزرائها.
إزاء ذلك، تبدو السلطة الفلسطينية مستسلمةً بالكامل، مستنكِفةً عن التمسّك بأيّ مطالب جوهرية مِن مِثل لجْم المشاريع التهويدية والاستيطانية الهادفة في نهاية المطاف إلى ضمّ الضفة الغربية، مكتفيةً، بحسب ما تَسرّب، بتحويل بعض الأموال المحتجَزة منذ سنوات لصالحها، على رغم ادّعاء رئيس وفدها، حسين الشيخ، أن «مفاوضات شرم الشيخ اتّسمت بالصعوبة أمام تمسّك الوفد الفلسطيني بموقفه الثابت برفض الخوض في أيّ مسار أمني أو اقتصادي قبل الوصول إلى اتّفاق سياسي تلتزم إسرائيل من خلاله بوقف الإجراءات الأحادية كافة»، وأن «تقدّماً حصل في بعض القضايا والمسارات، فيما لا تزال هناك بعض الملفّات العالقة والمختلَف عليها». في المقابل، نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مسؤول إسرائيلي رفيع قوله إن الاجتماع الأمني في شرم الشيخ كان «ممتازاً»، في حين أفادت «القناة الـ13» الإسرائيلية بأن الاجتماع انتهى بعد نحو ساعتَين، وتمّ الاتفاق في خلاله على عقْد لقاء آخر في الأسابيع المقبلة. وبحسب التقارير الإسرائيلية، فإنه لم تَصدر قرارات جديدة عن «شرم الشيخ»، سوى تأكيد المشاركين ما كانوا قد توصّلوا إليه في «العقبة» الذي عُقد نهاية شباط الماضي، وتشديدهم على ضرورة «أن يستمرّ» المسار الذي بدأ بهذا الأخير.
على أيّ حال، يدرك المقاومون في الضفة الغربية أن رأسهم هو المطلوب من اجتماعَي العقبة وشرم الشيخ وما سيَعقبهما، وهو ما يفسّر الرسائل التي حاولوا إيصالها من خلال عمليّتَي حوارة الفدائيتَين، ومفادها أن المقاومة أصبحت عصيّة على الاجتثاث. أمّا حكومة الاحتلال، فتبدو التفاهمات الأخيرة غير ذات قيمة بالنسبة إليها، وهو ما يدلّ عليه قول وزراء إسرائيليين إن تلك التفاهمات غايتها الأساسية «إعلامية وعلاقات عامّة مقابل الأميركيين والفلسطينيين»، وفق ما نقلت عنهم الإذاعة العامّة الإسرائيلية «كان». وأشار هؤلاء إلى أنه من الناحية الفعلية اتّفق رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، «مسبقاً من وراء الكواليس مع أحزاب الائتلاف» على أنه لا توجد أهمّية للاتّفاقات على أرض الواقع، فيما يُتوقّع أن يَعقد «مجلس التخطيط الأعلى» التابع لـ«الإدارة المدنية» اجتماعاً في أيار المقبل، من أجل المصادقة على مخطّطات بناء جديدة في المستوطنات. وفي هذا الإطار، لفتت «كان» إلى أن أيّ وزير من حزب «الصهيونية الدينية» لم ينتقد مخرجات «شرم الشيخ»، لأنه «من الواضح أن دفْع البناء في المستوطنات لن يتعرقل أو يتغيّر».