أمام كنيس يهودي في مستوطَنة «نيڤي ياكوڤ» (واحة يعقوب)، المُقامة على أراضي بلدة بيت حنينا شمال القدس، في تمام الساعة الثامنة والربع من مساء يوم الجمعة، بدأ خيري علقم مراسم انتقام ظلّ يختمر في عقله وقلبه طوال 21 عاماً. طبّق ابن القدس كلّ مقولة كان قد عَنون بها صوره الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي. شابٌ وسيم، بملامح بريئة، يمسك بعنان فرسه، قائلاً: «مَن قال إنّنا نريد سلاماً؟ نريد حرباً لا نهاية لها». أمّا التكتيك الذي اختاره، فقد كتبه في أعلى صورة أخرى: «قنّاص مناسب في مكان مناسب، خيرٌ من ألف جندي في ساحة معركة». والنتيجة يلخّصها بيت شعر في معلّقة عنترة: «فإذا ظُلمت فإن ظلمي باسل... مرّ مذاقته كطعم العلقم». لم يَترك ابن الـ 21 ربيعاً رمزيّة في أدبيّاته المنتقاة بعناية فائقة، إلّا جلّاها. أشهرَ مسدّسه، لتحكي طلقاته ما عبّرت عنه كلماته سلفاً: «لم نعُد نخاف من شيء، فكلّ ما نخشاه قد حدث». أمّا توقيت الفعل الأعجوبة، فلعلّه الأكثر إبداعاً من احترافه الفريد في إطلاق النار؛ بعد يومٍ دامٍ، تبجّح فيه قادة المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية بقتلهم تسعة شبّان بعمر ورد الأقحوان في مخيم جنين، لثلاثة منهم أمٌ واحدة، سنشاهدها في اليوم التالي، تطلق الزغاريد وتوزّع الحلوى. هكذا، قرّر الشاب أن يحوّل بصنيعه بيوت العزاء إلى أفراح.
لم يَترك ابن الـ 21 ربيعاً رمزيّة في أدبيّاته المنتقاة بعناية فائقة، إلّا جلّاها


في عام 2001، بعد ثلاث سنوات من مقتل جدّه خيري على يد الإرهابي اليهودي، حاييم بيرلمان، ولد خيري الحفيد في حيّ الشيّاح في قرية الطور شرق المسجد الأقصى، لعائلة تنحدر من قرية بيت ثول المهجّرة في قضاء القدس المحتلة، مكوّنة من سبعة أشقاء هو الثاني بينهم. درس «الحفيد المنتقِم» حتى الثانوية في مدارس قرية الطور، ثمّ عمل بعد تخرّجه في مجال الكهرباء. يقول والده موسى علقم في وصْف ولده: «شابّ بسيط، متديّن بالفطرة، محبوب من الجميع، خدوم وصاحب نخوة (..) لم ينتمِ إلى أيّ من الأحزاب، ولم يفصح يوماً عن نيّته تنفيذ فعلٍ كهذا. العمل والمنزل، هما حياته». الصمت، التخطيط الجيّد، دراسة الهدف الذي زاره مرّتين قبل التنفيذ، التمرُّن الجاد والاحترافي على استخدام السلاح الذي انتقى أيضاً نوعيّته بعناية، توّج علقم كلّ ذلك بأخلاق الفرسان. إذ وفقاً لشهادة إحدى المستوطِنات، فإن ابنتها، وهي فتاة لم تتجاوز الـ 20 من عمرها، مرّت من أمامه وتوّسّلتْه بأن لا يقتلها، فسمح لها بالذهاب قائلاً: «اذهبي من هنا، أنا لا أطلق النار على النساء»، ثمّ واصل هجومه.
أغلق الشاب المقدسي فاتورة الحساب. قَتل في 20 دقيقة سبعة مستوطِنين، وأصاب 10 آخرين، أي أن طلقة واحدة، من أصل 18، ظلّت في مخزن ذخيرته، أو أخطأت هدفها، أو لعلّها أصابت قلْب المنظومة الأمنية الإسرائيلية، والوعي الجمعي لمجتمع الاحتلال، مُسجّلةً أن دوائر الدم التي يفتتحها الأخير كلّ يوم، ستكتمل ولو «بعد جيل»، في ديمومة لا يُنهيها تقادُم السنين.