بعد طول معاناة، انطفأ الأسير المقاوم ناصر أبو حميد في سجون العدو الإسرائيلي، مسطّراً فصلاً جديداً ومؤلِماً في سجلّ شهداء الإهمال الطبّي الذي تمارسه سلطات الاحتلال ضدّ الأسرى الفلسطينيين، بدأب وتعمّد. إهمالٌ تجلّى هذه المرّة في حرمان أبو حميد من بروتوكول العلاج المناسب لمرض السرطان الذي ألمّ به، ما أدّى إلى تفاقم حالته على نحو سريع وخطير، وصولاً إلى استشهاده فجر أمس مربوطاً إلى سرير، ومحروماً من وضع رأسه لآخر مرّة في حِجر أمّه، التي ربّما يعبّر عن لسان حاله إزاءها، بثّ أحد رفاقه المرضى إلى رفيقه في السجن، مخاوفه من أن يعود إلى أمّه بـ«كيس أسود». على أن ناصر لم يَعُد إلى الآن لا بكيس ولا بغيره، إذ لا يزال جثمانه شديد النحول محتجَزاً لدى سلطات العدو، التي طالبتْها عائلة الشهيد بإطلاق سراحه حتى تتمكّن من إقامة العزاء اللائق له، مؤكدة «أنّنا سنكون كما كُنّا دائماً، صابرين بصبر شعبنا، أقوياء مستمِدّين قوّتنا وعزيمتنا من تضحيات شهدائنا الأبرار»

لُفّ الأسير ناصر أبو حميد، أخيراً، بكيس أسود، هو نفسه الكيس/ الكابوس بالنسبة إلى الأسرى المرضى، والذي عبّر أحد هؤلاء عن قتامته في حديث إلى زميله في وقت «الفورة»، بقوله: «أخاف أروّح لأمي بكيس أسود». على أن دائرة أبو حميد أُغلقت أمس بالفعل، من دون أن يعود إلى حضن والدته، أو يرى الشمس للمرّة الأخيرة. استُشهد من دون أن يلمس خدّ أخته الصغيرة، فلسطين أبو حميد. هي لم تَعُد صغيرة، منذ اليوم الذي كان عمرها فيه تسع سنوات فقط، يوم قَتل أولئك «الأشرار» طفولتها. كان إخوتها الأربعة أسرى، ووالداها ممنوعَين من زيارتهم لـ«أسباب أمنية»، فيما هي وحيدةً تتحمّل مشقّة العذاب عبر حافلة «الصليب الأحمر»، متنقّلةً بين السجون الإسرائيلية للقائهم من وراء زجاج.
لم يراهن ناصر يوماً على أولئك الجالسين على كراسيهم، يبالغون في نفخ كروشهم التي نمت من عظام المسحوقين. خاطب، في رسالته الأخيرة، الشعب الفلسطيني، المسحوق مثله، مُعوِّلاً عليه، راضياً بمصيره، وعارفاً أنه سيلاقي ربّه لدى استشهاده. كذلك، ارتأى مخاطبة قائده، الأسير مِثله مروان البرغوثي، طالباً من الله أن يعِين الأخير على حفظ الأمانة. والدته لطيفة لا تحتاج إلى حمْل نياشين إضافية، أو «تورّم لغوي» كما يسمّيه الأسير وليد دقة لتعويض العجز الذي راكمه المسؤولون الفلسطينيون على أكتافهم العريضة. انتهت القصّة من دون أن تتمكّن أم ناصر من أن تستحصل حقّه في أن يموت بين ذراعيها. حتى هذا العذاب لم يستطع المسؤولون تحقيقه لها، بل تركوا ابنها في مستشفى «أساف هروفيه» يصارع مرضه وموته اللذين صنعتْهما إسرائيل وسجونها الممتدّة، التي كان ناصر يتنقّل بينها. تركوه مكبَّلاً بالسرير، بينما هو في غيبوبة أصلاً. لعلّ تلك الأمّ لا تحتاج إلى أن يصفها أحد بـ«سنديانة» فلسطين. هي أدركت، منذ زمن بعيد، دورها كأمّ فلسطينية تعيش في قلب الاحتلال، وعرفت أن لا رفاهية لمثلها. أنجبت وربّت وتعِبت وهيّأت أولادها جميعاً مقاوِمين في ميادين القتال. أُسروا جميعاً، قبل أن يغتال الاحتلال أحدهم، ويهدم بيتها مرّات عدّة، لتعود واقفة شامخة مِثل جبل لا يهتزّ. أم ناصر التي عجنت المستحيل فجعلتْه ممكناً، لا تجد اليوم مكاناً لتنكسر فيه، وتنزوي وحيدة محزونة، بل ودّعت شهيدها الثاني أمس، مُحمِّلةً إيّاه سلاماً إلى «عبد المنعم (شهيدها الأول) وبقيّة الشهداء».
ساد الإضراب العام والحداد الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين


استشهد إذاً ناصر أبو حميد (49 عاماً)، ابن مخيّم الأمعري في قضاء رام الله في الضفة الغربية المحتلّة، في مستشفى «أساف هروفيه». استشهد أو قُتل بالموت البطيء وسياسة الإهمال الطبّي المتعمَّد التي تمارسها إدارة سجون الاحتلال بحقّ الأسرى جميعاً، والمرضى منهم على وجه الخصوص. وعلى الأثر، أَعلن الأسرى في المعتقَلات كافة الحداد والإضراب العام مدّة ثلاثة أيام، سيُرجعون خلالها وجبات الطعام، ويُواصلون الطَرق على الأبواب والتكبير. في المقابل، وصلت وحدات قمع مدجَّجة، تُرافقها شرطة الاحتلال، إلى العديد من السجون، تحسُّباً لانفجار الأوضاع على خلفية استشهاد أبو حميد، في وقتٍ هدّد فيه وزير «الأمن الوطني» العتيد، إيتمار بن غفير، بإنهاء ما سمّاه «المخيّمات الصيفية داخل السجون»، في إشارة إلى نيّته تصعيد القمع ضدّ الأسرى وحرمانهم من أبسط الحقوق التي خاضوا لأجلها معارك ببطونهم الخاوية.
أمّا خارج السجون، أو في السجن الاستعماري الكبير، ساد الإضراب العام والحداد في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، فيما طالبت أم ناصر بتسليمها جثمان نجلها، قائلةً إن «الشهادة كانت أمنية ناصر، وفي آخر زيارة له قال إنني مشروع شهادة وبدي أروح عند أخوي الشهيد عبد المنعم وكلّ الشهداء». لا تطلب الأمّ أكثر من ذلك، تريد فقط ألّا يبقى الجثمان النحيل داخل ثلّاجة الموتى، وتتجمّد حياة عائلته معه. بدورها، نعت عائلة أبو حميد ابنها في بيان قالت فيه: «بقلوب يعتصرها الألم، ولكن بهامات مرفوعة، نزفّ إليكم في عائلة أبو حميد نبأ استشهاد ابننا الغالي، القائد الكبير، أسد فلسطين وابنها البارّ الذي صعدت روحه إلى بارئها فجر هذا اليوم 20/12/2022، وبهذا تكون روحه حرّة طليقة، ويبقى جسده أسيراً لدى الاحتلال الغاشم الذي هو الوجه الآخر للنازية». وأضافت: «إننا في عائلة ناجي (أبو حميد)، إذ نُسلّم أمرنا لله عزّ وجلّ، فإنّنا مؤمنون بقضائه وقدره، وفي الوقت نفسه نُعاهد أبناء شعبنا الصابر، على أن نكون كما كُنّا دائماً صابرين بصبر شعبنا، أقوياء مستمِدّين قوّتنا وعزيمتنا من تضحيات شهدائنا الأبرار، وإنّنا لن نتقبّل العزاء بابننا القائد إلّا بعد أن يتحرّر جسده الطاهر ومعه سائر جثامين الشهداء العظام المحتجَزة لدى الاحتلال الفاشي». وتابعت أنه «بهذا يكون ناصر قد ترجّل روحاً، ولم يترجّل جسداً بحيث لن يتسنّى لنا إكرامه بالدفن، وذلك بحسب قانون الاحتلال البغيض... ولْيفهم هذا الاحتلال بأنه لدينا قوانين نحن القابضون على الجمر، المحتسِبون أمرنا لله عزّ وجلّ»، مؤكّدة «(أنّنا) سنظلّ في حالة حداد مستمرّة إلى أن يتحرّر جسد ابننا الطاهر ومعه سائر جثامين شهدائنا الأبرار المحتجَزة في مقابر الأرقام، وداخل ثلّاجات العدو».
واستشهد أبو حميد بعد يومَين من نقْله من سجن «الرملة» إلى مستشفى «أساف هروفيه»، إثر تدهوُر خطير في حالته الصحّية أدْخله في غيبوبة، ما دفع «هيئة الأسرى الفلسطينية» إلى التحذير من استشهاده «في أيّ لحظة»، وذلك «كون الاحتلال يتعمّد ممارسة الإهمال الطبّي بحقّه، وترْك السرطان يأكل جسده، من دون أن يَنظر في طلبات الإفراج عنه انطلاقاً من ظرفه الصحّي الصعب». وكانت حالة الشهيد تَفاقمت بشكل واضح منذ آب من العام الماضي، حيث بدأت معاناته بآلام شديدة في الصدر، قبل أن تتبيّن إصابته بسرطان الرئة، ويخضع لجراحة أزيل خلالها محيط الورم، ليعاد نقله مجدّداً إلى سجن «عسقلان» محروماً من تلقّي العلاجات المناسبة، الأمر الذي أفضى به إلى وضع خطير، قبل أن تُباشر سلطات الاحتلال، بعد مماطلة وتسويف، إعطاءه العلاج الكيميائي الذي كان قد فات أوانه جرّاء تفشّي المرض في جسده. أبو حميد، الذي أمضى سنين عمره في الزنازين والمعتقلات، حُكم بالسجن المؤبّد سبع مرّات، وخمسين عاماً. اعتُقل للمرّة الأولى لَمّا كان لا يزال فتى إبّان «انتفاضة الحجارة» عام 1987، ثمّ أُفرج عنه بعد أربعة أشهر، ليُعاد اعتقاله مرّة ثانية ويُحكم بالسجن عامَين ونصف عام، ثم يُفرَج عنه ويعاد اعتقاله لاحقاً، قبل أن يُحكم بالسجن المؤبّد ويمضي منه أربع سنوات. وبعد أن أطلِق سراحه ضمن من أُطلقوا عقب «اتفاقية أوسلو»، جدّد الاحتلال اعتقاله جرّاء انخراطه في عمليات المقاومة إبّان «انتفاضة الأقصى»، وحَكمه بالسجن مدى الحياة.
لأبي حميد أربعة أشقاء آخرين، أسرى مثله، يقضون أحكامهم بالسجن المؤبّد، ثلاثة منهم، نصر ومحمد وشريف، اعتُقلوا معه إبّان الانتفاضة الثانية، فيما الرابع، إسلام، الذي اعتُقل عام 2018، يواجه حكماً بالسجن المؤبَّد وثماني سنوات. أمّا شقيقه عبد المنعم، الشهير بـ«صائد الشاباك»، فقد استشهد عام 1994، إثر اغتياله برصاص وحدة مستعرِبين إسرائيلية خاصة.