قبل نحو شهر من الآن، كان طارق كيوان (19 عاماً) برفقة أصدقائه في طولكرم للتسوّق. لدى وصوله الحاجز الإسرائيلي، الفاصل بين الضفة الغربية وأراضي الـ48، سيقَ إلى التحقيق مع رفاقه. في ذلك اليوم الماطر، وعند الساعة الخامسة، اتّصلت والدة كيوان، جيهان، بابنها، لكن الأخير لم يُجب. حاولت الاتّصال ببقيّة رفاقه، غير أن هؤلاء لم يتمكّنوا من الردّ أيضاً. مع مرور الوقت، بدأ مستوى القلق يرتفع لدى ذوي طارق ورفاقه، والذين اعتقدوا ابتداءً أن أبناءهم تعرّضوا لحادث طرق بسبب المطر، ما دفعهم إلى الاتصال بالشرطة والمستشفيات الفلسطينية، إلّا أن هذه الأخيرة قالت إنه لم يصلها أشخاص بالأسماء التي سُئلت عنها. وفي الثامنة من مساء اليوم نفسه، اتّصل أحد معارف العائلة، الذي تَصادف تواجده عند الحاجز المذكور، ليخبرها بأن ابنها ورفاقه معتقلون. حاولت العائلة التواصل مع الشرطة الإسرائيلية، التي أخبرتها في وقتٍ لاحقٍ أن ابنها معتقل لدى شرطة حيفا. وعند الواحدة ليلاً وصلت الأسرة إلى مركز الشرطة المُشار إليه، لكنها لم تَجد طارق هناك. وفي اليوم التالي، وردها اتصال من معتقل "الجلمة" (كيشون - جنوبي حيفا)، يطالبها بتعيين محامٍ لابنها، ويبلغها أنه أُقرّت جلسة محكمة لتحضرها. لكن في المحكمة أيضاً لم ترَ العائلة نجلها، وبقي الحال كذلك طيلة 25 يوماً. 25 يوماً مُنع فيها طارق من رؤية عائلته، بينها 18 يوماً حُظر عليه أيضاً فيها لقاء محاميه. وفي هذا الإطار، تَلفت والدة طارق، في حديثها إلى "الأخبار"، إلى أن "طريقة الاعتقال وتوقيته أثارا علامات استفهام كبيرة لديها"، مشيرةً إلى أن "رفاقه الذين كانوا معه فُتّشوا، وحُقّق معهم حول الأماكن التي كانوا فيها في طولكرم ومع مَن التقوا، قبل أن يطلَق سراحهم بعد ساعات ويظلّ طارق معتقَلاً". وتضيف أنه "لدى تعييننا المحامي، استفسر الأخير بدوره أمام النيابة عن التهم الموجَّهة إلى موكّله، لنتفاجأ بتهم كثيرة بينها وضع عبوة متفجّرة على سكّة القطار (بالقرب من مستوطنة أح يهود/ البروة المهجرة) التي تربط بين عكا وكرمئيل، والمشاركة في احتجاجات هبّة أيار، وتكسير إشارات المرور، وعرقلة عمل الشرطة، وإطلاق نار في الهواء".
الاعتقالات تهدف إلى التغطية على عجز الاحتلال عن الوصول إلى واضع العبوة الحقيقي


خلال الـ25 يوماً الأولى، مُدّد اعتقال كيوان أكثر من مرّة، وعُقدت محكمة أمنية له بجلسات مغلَقة، إلى أن قُدّمت لائحة اتّهام ضدّه، سقطت منها تهمة "وضع عبوة على سكّة القطار"، ما قد يشير إلى أن الاعتقالات الجارية "عن جنب وطرف" أخيراً، تهدف إلى التغطية على عجز الاحتلال وأجهزة أمنه عن الوصول إلى واضع العبوة الحقيقي، لا سيما وأن محقّقي "الشاباك" يُخضعون أولئك الذين اعتقلوهم أخيراً لترهيب نفسي "لا يوصف"، وفق ما تقول والدة طارق. وتوضح كيوان، في هذا الإطار، أنه في أول زيارة لابنها، "كان طارق هزيلاً، ومصدوماً بعد زجّه في زنزانة إفرادية، لا تتجاوز المترين بمتر، تدبّ فيها الحشرات، ومياه الصنبور فيها مقزّزة ولا تصلح حتى لغسل الأيدي، إضافة إلى أنها ببابَين حديديين، ما يعني أنه إن صرخ المعتقل من الليل حتى الصباح ليس هناك من يسمعه. وكلّ هذا بموازاة التحقيق لوقت طويل امتدّ أقلّه لثماني ساعات، فضلاً عن الحرمان من النوم والأكل". وتبيّن كيوان أن أساليب التعذيب الممارَسة ضدّ معتقلي "هبّة الكرامة" تهدف أولاً إلى "انتزاع اعترافات من الشبان الذين لا خبرة لهم لا في تجارب الاعتقال ولا حتى على مستوى حقوقهم كما يكفلها القانون"، مضيفة أن "الهدف الأساسي من ذلك هو كسرهم، وتربية البقيّة بهم بسبب الخشية الإسرائيلية من تكرار مواجهات هبّة أيار".
أمّا بالنسبة إلى تعامل الحاضنة المجتمعية والحزبية مع قضيتهم، فتشير إلى أن ردّ الفعل الشعبي غائب تقريباً، فيما نواب "الكنيست" العرب الذين توجّهت إليهم، أعطوها جواباً حازماً بأنهم "لن يتدخّلوا"؛ إذ قالوا لها إن "الشاباك لديه ضوء أخضر للتحقيق مع معتقَلي الهبة، وإنزال أقصى العقوبات بهم"، مستدركةً بأنهم "يستطيعون فعل الكثير ولكنهم لا يريدون. بإمكانهم الدعوة إلى تظاهرات غضب من أجل الضغط على الحكومة غير أنهم ليسوا في هذا الوارد. لقد دفع هؤلاء (الأحزاب ونوابها) شبابنا للنزول إلى الشوارع وتركوهم في مواجهة الظلم وحيدين". ومن هنا، تشدّد على ضرورة أن يقوم المحامون بتوعية الشبان، سواءً على مواقع التواصل الاجتماعي، أو من طريق عقد ورش عمل، وتنبيههم إلى مخاطر التحقيق وحيثياته، وحقوقهم القانونية، لافتة إلى أنه "في خلال الزيارة، قال لي ابني إنه من هول الصدمة والتعذيب النفسي الذي يتعرّض له، قد يقدِم المُعتقل على الاعتراف بما لم يرتكبه فقط لإحساسه بأن ذلك قد يخلّصه من العذاب الذي يعيشه".
اليوم، خطبة شقيقة طارق. تتخيّل كيوان المشهد، حين ستدخل العروس مع شقيقها البكر، فيما شقيقها "آخر العنقود"، لن يتمكّن من حضور أوّل فرح في البيت. تحاول مسح دمعتها، وهي تسرد كيف تدخل إلى غرفته كلّ يوم، وتشتمّ الثياب التي اشتراها للحفل. "لقد بكيت لأيام طويلة، وأنا أفكّر في حال ابني، وما إن كان يشعر بالبرد. لكنني اليوم أقوى، وأدركت أن البكاء والانزواء ليس حلاً. علينا مواجهة هذا القدر".