تكشف دماء شهيدَي مخيم جنين، محمد أيمن السعدي ونعيم جمال الزبيدي، جانباً من السرّ الذي أعاد بعْث المقاومة في الضفة الغربية، بعد عدمٍ استمرّ نحو 15 عاماً. ستحكي التفاصيل كيف استطاع جيل العشرينيات، جيلُ ما بعد عملية «السور الواقي» والانتفاضة الثانية وخطّة كيث دايتون، إعادة المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية إلى المربّع الرقم صفر من جديد. «أبو الأيمن السعدي» هي الكُنية الشهيرة لابن الـ26 ربيعاً، الذي حفظتْه شوارع المخيم وأزقّتها. القائد الأبرز في «كتيبة جنين» كان قد انتمى إلى حركة «الجهاد الإسلامي» منذ نعومة أظفاره، وهو الصديق المقرَّب للشهيد الملهِم جميل العموري، في المخيّم الذي درسا المرحلة الثانوية فيه، وعايشا معاً حكايات البطولة التي تركتْها ملحمة عام 2002 كإرثٍ عصيّ على الضياع. غير أن العموري استطاع بما امتلكه من شخصية محبَّبة، الخروج بالشباب الصاعد من الإحباط المطلَق إلى العمل المنجَز. يقول السعدي في حديثه عن صديقه: «أعاد جميل ثقافة ارمِ الحجر واحمل بارودة، أحيا جميل المخيّم، كان جميل قدوتنا في الاشتباك».
محمد السعدي ونعيم زبيدي

وعقب استشهاد العموري في مطلع حزيران 2021، لمع نجم السعدي. «برز أبو الأيمن كوليّ دم صديقه، بدأ بتنظيم الصفوف واستقطاب الشبان»، وفق ما يقول صديقه محمود في حديثه إلى «الأخبار»، مضيفاً أن «أكثر ما تَميّز به أبو الأيمن هو البساطة والصدق، يعبّر عن المضامين الكبيرة بمنتهى البساطة، بساطة الحديث والشخصية، التواضع المطلق، والهمّة العالية. أحبّه الجميع لأنه كان قائداً حقيقياً، يمارس دور جنديٍّ مستجدّ». وخلال عامَين من تصدُّر الشهيد السعدي مشاهد الاشتباك في المخيم، وضعه جيش الاحتلال في قائمة أخطر المطلوبين، وقد نجا الأسير المحرَّر بعد ثلاث سنوات من الاعتقال، عدّة مرّات، من محاولات اغتيال متكرّرة، كما أصيب ثلاث مرّات بجروح مختلفة. يقول أحد رفاقه: «لم أَجد أبرّ منه بوالده، ولا أحنّ منه على عائلته، لقد ابتُلي بفقد والده إثر إصابته بمرض السرطان قبل عامَين، ولم يشغله عمله المقاوم عن رعايته، كان يعود إلى المنزل في وسط الليل مرّات عدّة، كي يقبّل يدي أبيه ويَطمئنّ إلى رضاه عنه».

مع «رجل الظلّ»
أكثر الأدوار التي لعبها العموري والزبيدي حِرفية في بناء الحالة المقاوِمة في جنين، هي الخروج بنبض الشارع من مربّع التجاذبات السياسية إلى العمل الموحّد، إذ استطاع «الرجل الوحدوي» تنظيم الصفوف، وفق ما يؤكد أحد مُقاومي «كتيبة جنين»، موضحاً، في حديث إلى «الأخبار»، أن «فلسفة السعدي ليست الدعوة إلى الوحدة، بل الإبداع في تعزيزها، كان يفوّض كلّ إشكالية داخلية إلى شخصيات اجتماعية جامعة تُبدع في حلّ المشكلة، وعقب ذلك، يتدخّل هو بأسلوبه الأخوي المرح في إعادة اللُّحمة والألفة إلى القلوب». وقد ظهر السعدي في خطاب ألقاه خلال عرْض عسكري نظّمتْه الكتيبة في ذكرى انطلاقة «الجهاد» أخيراً وهو يقول: «إن هذه البندقية لكتائب الأقصى والقسام وسرايا القدس، نحن في خندق واحد هنا لمواجهة الاحتلال الغاشم، وعلى الجميع أن يفهم أنّنا في مخيم جنين وحدة واحدة، سنصل إلى القدس ونفتح بوّابات المسجد الأقصى بالدماء».
عقب استشهاد العموري، «برز أبو الأيمن كوليّ دم صديقه، بدأ بتنظيم الصفوف واستقطاب الشبان»


بين حارات المخيّم ذاته، قضى السعدي آخر سنواته برفقة صديقه الشهيد نعيم الزبيدي. ابن الـ27 ربيعاً ينحدر من عائلة ذات تاريخ نضالي غنيّ عن التعريف، وكان قد قضى ما مجموعه خمس سنوات في سجون الاحتلال، خلال عدّة اعتقالات طاولتْه. والده هو الأسير المحرَّر جمال الزبيدي الذي قضى 65 عاماً في المعتقَلات أيضاً، فيما ابن عمّه هو القائد زكريا الزبيدي. نعتْ «سرايا القدس» نعيم بوصْفه ««رجل الظلّ والسند»، وهو ما ليس غريباً؛ فقد مارس طوال عامَين من انطلاقة الكتيبة، دوراً محورياً في ردْم «حفر الشقاق والنزاع التي حاول العدو تعميقها بين فتح والجهاد»، وفق ما يقوله أبو رمضان، وهو أحد مُقاومي «كتيبة جنين»، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «هناك الكثير من الخلاف السياسي مع فتح والطريق التي تسلكه السلطة، وهو ما كان يشكّل حرجاً وحساسية بين أبناء الحركتَين، لكن نعيم استطاع تعزيز المخيم ووحدته كحالة طلائعية تقود الواقع الضفّاوي، بل تسعى إلى تغييره برمّته». وكان «سند المخيم»، الذي يحمل رتبة ضابط في جهاز الأمن الوطني، قد رُزق خلال اعتقاله الأخير طفلةً سمّاها «إيلياء» نسبة إلى مدينة القدس.
رحَل «المؤسّس» و«رجل الظلّ» خلال اجتياح إسرائيلي شاركت فيه نحو 80 آلية، قال الاحتلال إنه يهدف إلى «اجتثاث ظاهرة كتيبة جنين». لكنّ الكتيبة التي بدأت ببضع عشرات، و«يتجاوز تعدادها اليوم المئات»، كما أكد السعدي في إحدى مقابلاته المصوَّرة، تخطّت الطموح الإسرائيلي، إذ تكفّلت «رموزها نفسها بإحياء المقاومة في الضفة كلّها»، وفق ما جزم به أبو الأيمن أيضاً، تارِكاً للآلاف مِمَّن شيّعوه أمس تأكيد ذلك.