لا بدّ وَجَدَ قادة إسرائيل وأجهزتها الأمنية، في حادثة اختطاف جثمان تيران فرّو، ابن بلدة دالية الكرمل (جنوب شرقي حيفا المحتلة)، من مستشفى ابن سينا في مدينة جنين قبل ثلاثة أيام، وما رافقها من ردود فعل، نافذةً مهمّة لتعميق التفكّك في النسيج الفلسطيني، وزرْع الشقاق بين أبناء الشعب الواحد. فبعد ليلةٍ متوتّرة، تخلّلتها تحرّكات شعبية وقطْع طرقات وعمليات اختطاف واعتداء «على الهويّة»، قام بها مسلّحون فلسطينيون من قرى الكرمل والجليل (ذات الغالبية الدرزية) بحق فلسطينيين من جنين والضّفة الغربية للضغط على الخاطفين «المجهولين»، وفي لحظة سعارٍ طائفي، انحسرت المسألة فجر أمس عبر إعادة الجثمان إلى ذويه.وبلا شكّ، فإن مسارعة الإعلام العبري إلى بثّ أخبار كاذبة عن أن فرّو كان لا يزال حيّاً في المستشفى، وأن الخاطفين نزعوا أجهزة الإنعاش عنه ما أدى إلى وفاته، كان الهدف منها خلْق موجة كراهية تؤدّي إلى الصدام والتوتّر. والمفارقة أن الإعلام ذاته تناقل أخباراً حول وساطات من قطر ومصر والأردن والأمم المتّحدة والاتحاد الأوروبي، مع تهديدات وهميّة من قِبل جيش الاحتلال بتنفيذ عمليّة «السور الواقي» مجدّداً ضدّ جنين بهدف استعادة جثمان فرّو. لكن أكثر من مصدر في فلسطين روى، لـ«الأخبار»، أن الوساطات المحلّية هي التي أدت إلى حلّ الأزمة، بعد أن تَبيّن أن فرّو ليس جندياً في جيش الاحتلال، وأن التأخير حصل بسبب حالة الحرج التي تسبّبت بها الحادثة للخاطفين، وللبحث عن مخرج مناسب. لكن، بعيداً من التشكيك في نوايا الجهة الخاطفة، التي اعتقدت على الأرجح أنها تخطف جثّة جندي إسرائيلي، فإن تداعيات الواقعة لم تُصب فلسطين وشعبها ومقاومتها، إلّا بالأذيّة. ووسط كلّ الندوب، سُجِّلت إيجابية واحدة، بتسليط الضوء على قضية حوالي 113 جثمان شهيد فلسطيني يحتجزها كيان الاحتلال منذ سنوات.

محاولات «أسرلة» الدروز
منذ ما قبل بدايات الاستيطان اليهودي في القرن الـ19، حرص قادة الحركة الصهيونية على استغلال صراع العصبيات الطائفية و«حساسيات الأقلّيات والأكثريّات»، المتراكمة في قرون الظلمة والاحتلال العثماني.
ولم تتوقّف الحركة الصهيونية عن محاولات عزل طائفة الموحّدين الدروز تحديداً، عن النسيج الفلسطيني والشامي، في سياق تفكيك اللحمة الاجتماعية الفلسطينية. تطوّرت المحاولات مع الوقت، إلى السعي لـ«استخدام» الدروز كدروع بشريّة دفاعاً عن إسرائيل، نظراً لانتشارهم الجغرافي في القلب الجيو ـ سياسي للمنطقة، على الكتلة الجبلية الممتدّة من جبل السويداء إلى جبل لبنان، مروراً بجبل الشيخ والجولان المحتل. فشلت المحاولات الإسرائيلية في أكثر من محطّة تاريخية في سوريا ولبنان، لكن مشروع دعم إسرائيل لكيان انفصالي درزي يبقى دائماً مادّةً جذّابة للحركة الصهيونية، وبعض الشخصيات الدرزية المرتبطة بها.
أكثر ما يخيف الاحتلال هذه الأيام، أن تمتدّ روح الانتفاضة إلى الجيل الفلسطيني الجديد في الداخل المحتلّ


التحرّك الأكبر للدروز الفلسطينيين خلال تظاهرات مقام النبي شعيب في مطلع السبعينيات رفضاً للخدمة الإلزامية في جيش العدو، والتي فُرضت في نهاية الخمسينيات، دفع بسلطات الكيان إلى تكثيف الهجمة الثقافية والأمنية على طائفة الموحّدين الدروز في الداخل المحتلّ؛ فتمّ فرْض سياسات إدارية ونظام مدرسي «مؤسرل» منتصف السبعينيات، يغذّي النزعة الطائفية لدى الدروز ويخلق شعوراً «قومياً درزياً» وهمياً، يربط مصير الجماعة بمصير دولة إسرائيل، ويرفع حاجزاً بين الطائفة وبقية أبناء الشعب الفلسطيني. وكذلك الأمر في الجولان السوري المحتلّ، حيث يُطوّر الكيان منذ 1980 أدواته لفرض «الأسرلة» على السكّان ذوي الغالبية الدرزية.
لكن هذا السياق التاريخي، على قسوته، لم يمنع جزءاً كبيراً من الدروز الفلسطينيين، من رفض الالتحاق بالخدمة في الجيش الصهيوني، وتحمّل أعباء ذلك الرفض اضطهاداً مادّياً ومعنويّاً، وهم يئنّون اليوم بصمت تحت ستار التعتيم الإعلامي والسياسي، الصهيوني والعربي على حدّ سواء.

استثمار الفتنة
أكثر ما يخيف الاحتلال هذه الأيام، أن تمتدّ روح الانتفاضة إلى الجيل الفلسطيني الجديد في الداخل المحتلّ، وأن تتصاعد حركة رفض التجنيد والاحتلال، بين الجماعات التي اعتقدت إسرائيل أنه تمّ تدجينها على مدى عقود. لذا، بدا مشهد تبادل التهديدات بين الفلسطينيين، والتوتّر الطائفي والمذهبي، هديّة لمخطط الاحتلال الممنهج، في أكثر من اتجاه. في الأصل، ضاق العدوّ ذرعاً بجنين ومخيّمها. فما ظنَّه نهايةً للكفاح المسلّح مع اتفاقية «أوسلو»، ثمّ العدوان على جنين في 2002، يَظهر اليوم رهاناً فاشلاً مع تصاعُد حركة المقاومة والمجموعات المسلّحة الجديدة، فضلاً عن الجذوة التي وفّرها نموذج جنين، لقيامة الكفاح المسلّح في بقية مدن الضّفة المحتلّة.
وبالتالي، فإن نزْع التفوّق الأخلاقي لمقاتلي جنين وللمقاوم الفلسطيني بشكل عام، والسعي لتصويره كقاطع طريق أو معتدٍ، مقابل صورة جيش الاحتلال الملوّثة، ومحاولته الظهور أمس بصورة المنقذ لـ«مواطن إسرائيلي درزي»، يعدّ هدفاً إسرائيلياً غايةً في الأهميّة. وهذه النتيجة، تصبّ في خدمة الدعاية التي تقوم بها إسرائيل لتلميع صورتها كدولة «تعدديّة» بعد الانكشاف الكبير الحاصل أمام الجيل الجديد في الغرب الأوروبي والأميركي، بوصْف الكيان نظاماً عنصرياً لخدمة اليهود وحدهم.
وليس خافياً على دول وجهات عديدة، ما يقوم به جيش الاحتلال من تخطيط وتنفيذ لإغراق الضّفة الغربية بالفوضى المسلّحة والصراعات العشائرية والقبليّة، تمهيداً لمرحلة سقوط السلطة الفلسطينية، وتصدير بعض شخصياتها، كماجد فرج، الذي لم يهدأ خلال الأيام الماضية في محاولة لتعويم دور جهازه في حلّ المسألة وإيجاد الذرائع للاقتصاص من المقاومين في جنين وبقية مدن الضفة بذريعة «فوضى السلاح».
أمّا الاتجاه الثاني، فهو تغذية التحريض الذي يبثّه المتعاونون مع الاحتلال في القرى الدرزية، لنشر العداء مع بقية أبناء الشعب الفلسطيني والدفع للالتصاق بالدولة اليهودية كحامية للطائفة، وتقديم «أدلّة» على عداء وهمي يكنّه أهالي الضفة للدروز على خلفيات طائفية، كحادثة اختطاف جثمان شاب مثلاً. وهذا يفيد أيضاً شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز في فلسطين، موفّق طريف، الذي لا يوفّر جهداً هذه الأيام لا في فلسطين ولا في سوريا ولبنان، لخلق حالة معنويّة سياسية درزيّة عبر التعاون مع مجموعة من المشايخ وتقديم الدعم المالي لهم، والتنقّل بين العواصم، من بروكسيل إلى جنيف إلى موسكو، للمطالبة بـ«وضع خاص للدروز».
أحداث الأيام الأخيرة وانحسار واقعة الخطف وردود الفعل عليها بأقلّ الخسائر الممكنة، تكشف ثغرتَين أساسيتَين، الأولى هي الحاجة إلى مشروع وطني فلسطيني يحضن الكفاح المسلّح المتصاعد هذه الأيام، ويستطيع احتواء كلّ أبناء الشعب الفلسطيني خارج الاصطفافات الطائفية. أمّا الثانية، فهي حاجة الوطنيين في طائفة الموحدين الدروز في فلسطين إلى الظهور إلى العلن والمجاهرة برفضهم الاحتلال والالتحاق بالخدمة بصوتٍ أعلى، وهذا أيضاً يحتاج إلى مشروع وطني أوسع من جغرافيا فلسطين، يمتدّ إلى لبنان وسوريا، وإلّا فإن الأحلام الصهيونية القديمة، ستجد دائماً بيئةً خصبة للتخريب والتقسيم.