لا تُقاس عملية القدس المزدوجة بنتائجها المادّية المباشرة مهما كبّدت الاحتلال من خسائر، بل بكوْنها انتقالاً من الهجمات الفردية الارتجالية التي لا تُدار بطبيعتها مِن فوق، تخطيطاً وقراراً وتنفيذاً، إلى جيل جديد أو نسخة جديدة عنوانها التنظيم، لكن ليس القيادة من أعلى. ومِيزة هذه الأخيرة أنها تكون أكثر نجاعة وإيلاماً للعدو، كما أنها تُعدّ محفّزاً ومادّة للمحاكاة بالنسبة إلى فلسطينيين آخرين سيستلهمونها في تنفيذ عمليات مماثلة. ويأتي هجوم الأمس في مرحلة حسّاسة جدّاً في مسار القضية الفلسطينية، حيث تتّجه قيادة الاحتلال نحو تجريد نفسها من أيّ أقنعة، وتحكيم أقصى وجوه العنصرية والفاشية في مراكز القرار، والذي سيكون من شأنه تحفيز المزيد من أعمال المقاومة النوعية.وتُفيد المعطيات المجمَّعة لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بأن مجموعة من الأفراد هي التي نفّذت العمليّتَين، «من دون توجيه خارجي أو من أعلى المستويات في المنظّمات (الفلسطينية)»، لكن بعد «التخطيط طويلاً». كما تفيد بأن «المجموعة كانت على علم ودراية جيّدة بالمنطقة»، وبأنها «فجّرت العبوتَين عن بُعد». ويُعدّ هذا النوع من العمليات تطوّراً ملحوظاً في مسار العمل المقاوم في الأراضي المحتلّة، وتحديداً في مدينة القدس، التي بدت في الفترة الأخيرة أقلّ توتّراً قياساً إلى بقيّة مدن الضفة، الأمر الذي فَتح شهيّة الاحتلال على إمكانية الاستفراد بمدن الشمال، من دون أن يستتبع ذلك تداعيات في القدس. وتشير عودة الهجمات «الفردية - الجماعية» - إن صحّ التوصيف - مع ما حملتْه من تذخير للأدوات بالحديد والكُرات المعدنية بهدف مضاعفة الأضرار، إلى نوع من الاحتراف لدى منفّذيها، أو بالحدّ الأدنى إلى مساعٍ بذلوها لامتلاك هذا الاحتراف، بعيداً عن الارتجالية التي اتّسمت بها العمليات السابقة، كما في هَبّة السكاكين أو الدهس عبر الآليات. على أن الخشية الإسرائيلية لا ترتبط فقط بطبيعة العملية الأخيرة أو نتائجها، بل أيضاً بما إذا كانت فاتحةً لمسار عملياتي جديد.
لا تُقاس عملية القدس المزدوجة بنتائجها المادّية المباشرة مهما كبّدت الاحتلال من خسائر


الأكيد أن العدو سيعمل على منْع تكرار هذا الهجوم، وتدفيع الفلسطينيين ثمنه، بما يأمل أن يردعهم عن إعادة الكَرّة، لكن في الوعي الجمعي لدى الفلسطينيين، فإن «تدفيع الثمن» تَقرّر فعلاً قبل تنفيذ العملية المزدوجة وسابقاتها، في ظلّ شبه الاتفاق بين مكوّنات معسكر اليمين الفائز في الانتخابات الإسرائيلية، على إعطاء الحقائب الوازنة ذات التأثير على الفلسطينيين لزعماء الفاشية الجديدة. كذلك، ستكون المؤسّسة الأمنية معنيّة بأن لا تتسبّب إجراءاتها الهادفة إلى ترهيب الفلسطينيين وردعهم، بدفعهم إلى محاكاة هجوم القدس، وهو ما يمثّل مهمّة دقيقة وصعبة، خاصة أن مَن سيتمّ تحكيمهم في مراكز القرار هم فاشيون هَمّهم الوحيد ترجمة عنصريّتهم وعدوانيّتهم. ومن هنا، ستكون إسرائيل أمام تحدٍّ غير سهل، خاصة أن لا مكان في قاموسها الحديث للتخفيف من حدّة الصراع مع الفلسطينيين، بل بات المطلب الجمعي فيها صِفرياً بالكامل: «إمّا نحن، وإمّا هم»، وهو ما لا يمكن أن يتغيّر إلّا بعد أن تَدفع تل أبيب أثمان هذه السياسة.
في المقابل، سيكون على الفلسطينيين، إن أرادوا تحصيل حقّهم أو جزء منه، الاندفاع نحو تكبيد إسرائيل فاتورة احتلالها وطموحاتها الفاشية، لا إلى سلْبهم حقّهم في أرضهم فقط، بل أيضاً وجودهم نفسه، ومن المؤكد أن ذلك سيؤتي أكُله عاجلاً أم آجلاً. إلّا أنه في الفترة الفاصلة بين العمل والنتيجة، ستكون إسرائيل معنيّة بأن تُبالغ في إنكارها للواقع، وردّ التصعيد الذي لا ينتهي إلى اعتبارات وأسباب خارجة عن أصْل الاحتلال، والعمل على وأْد العمليات الفلسطينية في مهْدها، والحؤول دون تكرارها ومحاكاتها. غير أن ما يحول دون النجاح في تلك المهمّة، هو هذه الأخيرة نفسها؛ إذ إن سياسة العقاب الجماعي ضدّ الفلسطينيين تُمثّل بذاتها مُحرّكاً للعمل المقاوم ومذكياً له.