خطَت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خطوة إضافية متقدّمة على طريق مساعيها لتجريف حياة البدو في صحراء النقب المحتلّة. فبعدما دأبت على انتهاج أساليب استيطانية إحلالية مِن مِثل هدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وحرمان الأهالي من البُنى التحتية والمؤسّسات التعليمية والصحّية، وإبادة المحاصيل الزراعية، ومصادرة المواشي وقتلها، ها هي اليوم تتصدّى لإيجاد «حلّ» لمشكلة الاكتظاظ السكّاني في المناطق غير المعترَف بها، من طريق ضرْب الفلسطينيين بعضهم ببعض، في ما لا يصبّ، في نهاية المطاف، إلّا في مصلحة تنمية «الغيتوهات» التي يُحشر فيها العرب حشْراً
لا تكفّ آلة التدمير الإسرائيلية عن ابتداع أساليب «مطوَّرة» في محاولاتها تجريف مناطق السكّان الأصليين. جديدُها، في هذا المجال، اختراعها «حلّاً مذهلاً» لمشكلة أهالي القرى المسلوبة الاعتراف، يتمثّل في أن «تُعلّق» هؤلاء مع أهل أكبر مدن النقب وثانيها على مستوى فلسطين، رهط، التي يعاني أبناؤها أصلاً ضائقة سَكنية خانقة، ولا يُسمح لهم بشراء الأراضي ولا البناء فيها بحجّة «أنها غير مرخَّصة». إذ أقدمت «معيان»، وهي سلطة «توطين» البدو الإسرائيلية، على عرْض قسائم بناء في الضاحية الرقم 11 في المدينة، ليقوم 80 فلسطينياً من أهالي الزرنوق بشرائها للبناء فيها. وطبقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن البلدية التي يُفترض أن الضاحية المذكورة تقع ضمن صلاحيّاتها «لم تكن على علمٍ بطرْح القسائم»، ولأجل ذلك، رفعت دعوى في محكمة إسرائيلية، لم يكن مستغرَباً بطبيعة الحال وقوفها في صفّ الطرف الإسرائيلي، المتمثّل في سلطة توطين البدو.
وأثار إقدام فلسطينيّي الزرنوق على شراء القسائم المُشار إليها، سُخط بقيّة أهالي القرية البالغ عددهم 5000 نسمة، والذين يطالبون بالاعتراف بقريتهم وحقّهم في أراضيهم، ويرفضون الحلول الجزئية التي تأتي على حساب «إخوتهم الفلسطينيين»، كما يأبون أن يكونوا جزءاً من المخطّط الإسرائيلي الرامي إلى حصْر فلسطينيّي النقب في أضيْق مساحة ممكنة من أرض البادية، مقابل أكْبر مساحة ممكنة للمستوطَنات. وعلى هذه الخلفيّة نفسها، نظّم شبّان وشابّات فلسطينيون من رهط، أنفسهم في حراك «ليس مسيَّساً، ولا تابعاً لجهة أو لحزب»، وفق ما يؤكد الناشط سهل الدبسان في حديثه إلى «الأخبار»، لافتاً إلى أن أُولى خطوات «الحراك الشبابي» تمثّلت في نَصْب خيام احتجاجية في المدينة. ويرى الدبسان أنه «بالنسبة إلى السلطات الإسرائيلية، الحلّ لا يمكن أن يأتي على حساب المستوطَنات اليهودية، القائمة فوق أراضي الفلسطينيين أصلاً، بل وَجدت أن الطريق الأمْثل لذلك هو "توطين" عرب على حساب عرب آخرين يعانون بالمناسبة من الحرمان والمشكلة ذاتها»، مشدّداً على أن «الحلّ يكمن في الاعتراف بقرية الزرنوق وحقّ أصحابها فيها، وأيضاً الاعتراف ببقيّة القرى الفلسطينية في النقب». ويجزم أن «مشكلتنا ليست مع أهالي الزرنوق، فهم إخوتنا، بل على العكس، كُنّا سنرحّب بهم لو أنّنا أصلاً نجد لأنفسنا الحقّ في البناء في أراضينا، ولكن نحن نعاني من مشكلتهم»، مشيراً إلى أنه «بعد بضعة أشهر سيتجاوز عدد سكّان رهط نظيره في مدينة الناصرة التي هي أكبر مدينة فلسطينية في الداخل. ومن غير المعقول أنه لا يُسمح لنا بالشراء والبناء في أرضنا، وفجأة يُسمح لإخوتنا من قرية غير معترَف بها بذلك»، معتبراً أن كلّ هذا «يأتي في صالح المستوطنات الإسرائيلية، وبهدف تجميعنا في غيتوهات مكتظّة على أقلّ مساحة من أراضينا».
نظّم شبّان وشابّات فلسطينيون من رهط، أنفسهم في حراك رافض للمخطّط الإسرائيلي


ولم تَرُق الحركة الاحتجاجية في رهط سلطات الاحتلال؛ إذ سارعت «سلطة أراضي إسرائيل»، أمس، إلى إرسال جرّافاتها وآليّاتها، مَحميّةً بقوات خاصّة من الشرطة، لاقتحام الضاحية 11، والإجهاز على الخيام المنصوبة فيها، ومنْع الأهالي والناشطين من الاقتراب من المنطقة أو دخولها. إلّا أن الناشطين أكدوا أنه «سيُعاد بناء الخيام من جديد، وسنستمرّ في مطالبنا»، علماً أن هدمها جاء بعد أيّام من اعتقال شرطة الاحتلال خمسة فلسطينيين من عائلة أبو زايد، بشبهة «إنشاء خيام على أراضي دولة من دون ترخيص». وليست مشكلة رهط مستجدّة؛ فالمدينة التي أُسِّست عام 1972 على غرار سبعٍ أخريات في النقب لتجميع البدو الفلسطينيين في «غيتوهات»، تَضمّ اليوم ما يربو عن 70 ألف نسَمة على مساحة تزيد بقليل على 19 دونماً، وهي المدينة الفلسطينية الخالصة (غير مختلطة) في الداخل، والثانية بعد الناصرة كثافة. وتَكمن مشكلتها الأساسية في معاناتها اكتظاظاً سكّانياً عالياً؛ إذ يعيش ما معدّله 3402 شخص على كلّ كيلومتر مربّع منها. ومنذ أكثر من عقد، تضغط سلطات العدو على البلديّات والسلطات المحلّية في رهط وغيرها من المدن غير المعترَف بها، من أجل التورّط في صفقات تهجير للأهالي، بل إنها لم تتوانَ في بعض الأحيان عن وضع القبول بهذه الصفقات كشرط للحصول على ميزانيات.
وفي هذا الإطار، عرضت «سلطة تطوير النقب»، عام 2019، على بلدية رهط، المصادقة على تسويق 10 آلاف وحدة سكنية في الضاحية 11، مقابل موافقتها على تهجير أكثر من أربعة آلاف من أهالي الزرنوق، وإسكانهم في 1800 وحدة سكنية في الضاحية ذاتها. لكن ذلك العرض قُوبل برفضٍ شديد من قِبَل الأهالي واللجنة الشعبية والبلدية على حدّ سواء، كما رفضه أهالي الزرنوق الذين أكدوا أن الهدف من تهجيرهم هو بناء مستوطنة «عومريت» على أراضيهم. وعلى رغم ما تَقدّم، لم يمتنع 80 شخصاً من القرية، أخيراً، عن شراء القسائم التي عرضتْها (توطين البدو)، وهو ما أثار تساؤلات حول ما إن كانت «قوى حزبية» قد تدخّلت للدفع في الاتّجاه المذكور، خصوصاً قبيل فترة الانتخابات، مستغِلّةً حقيقة أن الأهالي يعيشون في «جهنم» التي صنعتْها إسرائيل لهم، فيما تَعِدهم اليوم بـ«نار» في رهط لا تختلف حقيقة الحياة فيها عمّا في سواها، خصوصاً على مستوى شبكات البنى التحتية، والكهرباء، والماء، والحرمان من التخطيط، وأزمتَي التعليم والبطالة.
إزاء ذلك، يتوحّد أهالي رهط على رفض المخطّط الإسرائيلي الأخير وإفشاله، وهو ما تُساندهم فيه معظم القوى والفعاليات، فضلاً عن شيوخ العشائر. وفي هذا السبيل، اتّفق هؤلاء على إرسال وثيقة تطالب عائلات الزرنوق التي أقدمت على الشراء بالتراجع، وتناشدها «بالله ألّا تكون عوناً للسلطة على تنفيذ برنامجها اللاإنساني في ما يتعلّق بالضاحية 11...». على أن الوثيقة التي نُشرت على صفحة رئيس البلدية، فايز أبو صهيبان، اعتبرها البعض «غير موفّقة»، كونها يجب أن تُوجَّه ضدّ السلطات الإسرائيلية التي هي أساس المشكلة، والتي يَظهر أنها تريد ترْكها تتناسل حتى يتصارع أبناء البيت الواحد في ما بينهم.