رام الله | في الوقت الذي عاشت فيه مدينة جنين حالة انتشاء بالعملية الفدائية التي نفّذها الشهيدان أحمد وعبد الرحمن عابد عند حاجز الجلمة، وأدّت إلى مقتل ضابط من جيش الاحتلال، كان الأهالي يترقّبون ما سيُقدِم عليه العدو من إجراءات تنكيل وانتقام، في ظلّ اهتزاز صورته عقب العملية الجريئة التي ضربت عُمقه الأمني. ولم تكد تمرّ ساعات قليلة على هجوم الجلمة، حتى بدأت حشود من أهالي جنين بالتَوجّه إلى بلدة كفر دان، مسقط رأس الشهيدَين، لإبداء الدعم لعائلتَيهما، بينما انتشر المقاتلون في المدينة، وجرى توزيع الحلويات على المواطنين احتفاءً بالعملية. وفي ساعات المساء، تَوجّه مئات الفلسطينيين من جنين ومخيّمها وقراها، في مسيرة حاشدة إلى كفر دان، في تعبير عن حالة الالتفاف الشعبي حول خيار المقاومة، على الرغم ممّا يستتبعه من عقوبات جماعية يفرضها الاحتلال على الأهالي. وإزاء الفشل الذي لا تزال تُمنّى به سلطات العدو في محاولتها وقْف مسلسل العمليات، ومحاصرة حالة الاشتباك المتمدّدة في الضفة، كان متوقّعاً أن يلجأ إلى أساليبه الانتقامية، في محاولة لتعويض الخسائر الناجمة عن عملية الجلمة، التي تغلّبت على إجراءاته العسكرية، وضربت قوّة ردعه، واقتحمت أكثر أماكنه حساسية وتحصيناً، والذي يشهد استنفاراً عسكرياً عالياً ودائماً، وانتشاراً لجنودٍ وضبّاط مدجّجين بالسلاح والذخيرة والوسائل التكنولوجية وكاميرات المراقبة. واقتحمت قوات الاحتلال، فجر أمس، عدّة قرى في محافظة جنين بمئات الجنود والآليات العسكرية؛ وتَركّز الاقتحام على بلدة كفر دان، التي شهدت اشتباكاً مسلّحاً مع مجموعة من المقاومين، ومواجهات مع الشبّان الذين ألقوا الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود العدو. وأسفرت المواجهات عن استشهاد الفتى عدي صلاح (17 عاماً) برصاصة في الرأس، وإصابة 3 آخرين حالة أحدهم خطيرة، في حين اعتقلت قوات الاحتلال 11 مواطناً. كذلك، داهم جنود العدو منازل ذوي الشهيدَين عابد، وأخذوا قياساتها تمهيداً لهدمها لاحقاً، كما أخضعوا ذويه أحمد وعبد الرحمن إلى تحقيق ميداني، قبل أن يعتقلوا الشاب عامر طه عابد، وهو ابن عم الشهيد أحمد. ورافق اقتحامَ قوات الاحتلال للبلدة، تحليقُ طائرات مسيّرة في الجوّ، وإطلاق مناطيد حرارية، وانتشار قنّاصة على أسطح المنازل والبنايات.
ومع كلّ عملية فدائية في الأراضي المحتلّة، تلجأ سلطات العدو إلى مِثل هذه الأساليب، في محاولة لتوليد ضغط محلّي على المقاومين بهدف منعهم من تنفيذ عمليات أخرى، وإحداث شرخ بين المقاومة وحاضنتها من خلال عمليات القتل والاعتقال والاقتحامات، والمسّ بموارد الأهالي الاقتصادية وأعمالهم وممتلكاتهم وحرّية حركتهم. لكن تلك السياسة أثبتت فشلها سابقاً، وهو ما يدلّل عليه تَصدّر جنين قائمة الشهداء في الضفة بـ34 شهيداً منذ بداية العام الجاري، كما وتَصدّرها لائحة منفّذي العمليات الفدائية. وضمن هذا السياق الانتقامي، قرّر وزير جيش العدو، بيني غانتس، أوّل من أمس، إغلاق حاجزَي الجلمة وسالم، اللذين يربطان مدينة جنين بالداخل المحتلّ، «حتى إشعار آخر»، وذلك للتأثير على دخول فلسطينيّي الداخل إلى المدينة للتسوّق. كما قرّر تجميد تصاريح العمل لسكّان قرية كفر دان، ومنْع إصدار تصاريح عمل إضافية، في تكرار لِما يجري اتّباعه ضدّ أيّ قرية أو بلدة يَخرج منها فدائي، والذي يشمل أيضاً محاصرة البلدة وإغلاق مداخلها بالسواتر الترابية وتقييد حركة أبنائها واقتحامها بصورة متكرّرة. أيضاً، أقرّ جيش الاحتلال عدم تعيير تعليمات إطلاق النار، خاصة في منطقة خطّ التماس مع الضفة. وكان جهاز «الشاباك» عرَض، عقب عملية الجلمة، على القيادات الأمنية الإسرائيلية، فرْض حصار جزئي، وإغلاق القرى والبلدات الفلسطينية التي تتوفّر للمخابرات الإسرائيلية معلومات وإنذارات عن احتمال أن يَخرج منها منفّذو العمليات، وسحْب تصاريح العمل في الداخل المحتلّ من سكّان مِثل هذه القرى. ورأت صحيفة «هآرتس» في ذلك محاولة من قِبَل «الشاباك» لتوفير آلية للضغط على سكّان القرى والبلدات الفلسطينية المستهدَفة، بهدف إضعاف «الحافز» إلى تنفيذ مزيد من الهجمات. ومن المتوقّع أن تُقدم قوات الاحتلال أيضاً، ضمن سياسة العقاب الجماعي هذه، على هدم منزلَي منفّذَي عملية الجلمة في أسرع وقت ممكن، واحتجاز جثمانَيهما في الثلاجات، وتوسيع دائرة الاعتقالات في كفر دان.
وبالتوازي مع تفعيلها تلك العقوبات، تُواصل إسرائيل ممارسة ضغوطها على السلطة الفلسطينية، بهدف دفْعها إلى تحسين أدائها في تعقّب المقاومين في شمال الضفة. وفي هذا الإطار، حذّر وزير الحرب، بيني غانتس، السلطة من انفلات أمني في الضفة، معتبراً أن انتماء الشهيد أحمد عابد إلى أجهزة أمنها «يُعدّ أمراً خطيراً، وإشارة تحذير بوجوب القيام بفحص داخلي والتصرّف». وأشار غانتس إلى أن «الإضرار بالاستقرار الأمني سيضرّ أوّلاً وقبل كلّ شيء بالسكّان الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية نفسها»، متوعّداً بأن جيش الاحتلال سينفّذ عمليات مكثّفة «أينما كان ذلك ضرورياً»، مكرِّراً أنه «في المكان الذي لا تمارس فيه السلطة الفلسطينية سيادتها، سنهتمّ بالحفاظ على أمننا». من جهته، لفت مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، إيال حولاتا، في «مؤتمر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات»، إلى «(أننا) معنيّون بأن تعمل السلطة الفلسطينية بإصرار لمنع الإرهاب، هذه مسؤولية السلطة، عندما تعمل بشكل فعّال، من غير المطلوب من إسرائيل العمل بشكل واسع لتمنع ذلك بنفسها»، أمّا في حالة «انعدام الاستقرار الأمني، فلا يمكن لإسرائيل الجلوس والنظر من الجانب الآخر. من دون احتكاكات داخل المدن، سيكون الإرهاب خارج المدن».
تُواصل إسرائيل ممارسة ضغوطها على السلطة الفلسطينية، بهدف دفْعها إلى تحسين أدائها


وفي السياق نفسه، اتّهمت صحيفة «يسرائيل هيوم»، رئيس السلطة محمود عباس، بفقدان السيطرة على عناصر الأمن الفلسطيني، ناقلةً عمّا سمّتها مصادر فلسطينية قولها إن «السلطة بدأت تفقد السيطرة على عناصرها، حيث ازداد انخراط هؤلاء أخيراً في تنفيذ العمليات»، مدلّلةً على ذلك بتنفيذ الشهيد رعد حازم «عملية ديزنغوف» وهو المنتسِب لجهة الأب إلى ضابط كبير في الأمن الوطني، وكوْن والد الشهيد إبراهيم النابلسي أيضاً ضابطاً في الأمن الوقائي. وأشارت الصحيفة إلى أن «هنالك حالة استياء في صفوف الأمن الفلسطيني من عباس، وإشارات أوّلية إلى إمكانية حدوث تمرّد داخلي، يشبه ذلك الذي حصل بداية الانتفاضة الثانية مع انضمام عناصر من الأمن إلى العمليات». ودقّ انخراط أفراد من الأجهزة الأمنية التابعة لرام الله، في عمليات المقاومة المتصاعدة في الضفة، جرس الخطر لدى المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، ليس فقط لتبنّي هؤلاء مشروعاً مناوئاً لمشروع السلطة، ومحافظتهم على عقيدتهم الوطنية بضرورة مقاومة الاحتلال، وإنّما أيضاً لتفوّقهم من الناحية العسكرية نظراً للتدريبات التي تلقّوها سابقاً، وما يمتلكونه من إمكانات، وقدرتهم على توفير احتياجاتهم بالاستفادة من علاقاتهم المتشعّبة. وعلى هذه الخلفيّة، لوّحت سلطات الاحتلال، في رسالة «شديدة اللهجة» بعثت بها إلى المسؤولين في السلطة بحسب قناة «كان» العبرية، بملاحقة العناصر الأمنيين الذين تشتبه في مشاركتهم في تنفيذ عمليات أو تقديمهم المساعدة فيها أو نيّتهم التخطيط لتنفيذها، مؤكدةً أنها لن تعتمد على رام الله للقيام بذلك.