غزة | استخدمت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، في معركة «توحيد الجبهات»، جملة من الأساليب النفسية والإعلامية، إلى جانب تكتيكات عسكرية جديدة، هدفت إلى إحداث شرخ بين فصائل المقاومة، وحفْر هوّة بين الأخيرة وحاضنتها الشعبية. فمنذ اعتقلت قوات الاحتلال، الشيخ بسام السعدي، عمدت إلى تطبيق جملة من خطوات الإيهام، التي أظهرتها وكأنها تتعرّض لحصار عسكري من حركة «الجهاد الإسلامي» على حدود غزة. وبينما لم تكن «الجهاد» قد بادرت إلى أيّ فعل عسكري على الأرض، بدأت إسرائيل الحرب مستندةً إلى معلومة غير دقيقة، أفادت بأن الشقّة التي اغتالت فيها قائد «لواء غزة والشمال»، تيسير الجعبري، كانت تحتضن اجتماعاً لكامل أعضاء المجلس العسكري لـ«سرايا القدس» في القطاع، وفق ما تؤكّده مصادر مطّلعة في «الجهاد». غير أن الأكثر أهمّية من اختيار توقيت البداية، هو مشاركة وسائل الإعلام العبرية التي تحظى بمتابعة كبيرة في الشارع الغزّاوي، في «بروباغندا» أظهرت «الجهاد» وكأنها الطرف الذي ابتدأ تصعيد الأوضاع الميدانية، علماً أن الحشد على الحدود، كما يقول الباحث في الشؤون العسكرية محمود صالح، «بدأته إسرائيل لوحدتها، صنعت الخصم والتهديد، وحشدت القوات البرّية والجوّية ومنظومات القبّة الحديدية، وأدخلت الوساطات، من دون معطيات ميدانية حقيقية تفيد بأن الجهاد متوجّهة إلى جولة. ما صدر من الجهاد هو تهديد تقليدي لم يحدّد مكان الردّ ولا كيفيته ولا سُبله». ويضيف صالح، في حديث إلى «الأخبار»، أنه «لا يمكن النظر إلى أيّ خطوة إسرائيلية بمعزل عن أخرى، أرادت إسرائيل أن تُظهر الجهاد وكأنها الطرف الذي يخوض حرباً لأجل إطلاق سراح أسير بعيْنه، دوناً عن 5 آلاف آخرين يقضون عمراً في السجون، ما يعرّي الحركة شعبياً، خصوصاً بعد الدخول في جولة مكلفة بشرياً ومادياً، وفي توقيت لم يكن الشارع فيه قد تعافى تماماً من تداعيات معركة سيف القدس».
من جهته، يشير المحلّل السياسي، توفيق المصري، إلى أن إسرائيل طبّقت في هذه الجولة التي تُصنَّف على أنها «معركة بين الحروب»، أسلوب الدمج بين المعلومات الاستخباراتية والماكينات الإعلامية المُوجَّهة، إلى جانب العمل الديبلوماسي لتحقيق جملة من الأهداف المركّبة، إذ عملت على إظهار «الجهاد» وكأنها الطرف «المقامر والمغامر والمعتدي» الذي عرّض حياة الناس للخطر وهدّد أرزاقهم، في سبيل «قضية صغيرة لا تعدو كونها اعتقال قيادي»، غير أن الحقيقة هي أن «السرايا» لم تحدّد المساحة التي ستصعّد فيها العمل العسكري ردّاً على اعتقال السعدي. وفيما كانت العيون كلّها تتّجه إلى الضفة الغربية، استحدثت إسرائيل ميداناً على حدود غزة، وبدأت الحرب، في الوقت الذي كانت توحي فيه للوسيط المصري تحديداً بقرب التوصّل إلى صيغة تعيد الهدوء. ويخلص المصري، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «إسرائيل هي الطرف المعتدي، هي التي غدرت، وهي التي اعتدت، فيما استطاعت الدعاية الإسرائيلية التأثير على الوعي الجَمعي، والتصوير وكأن المقاومة التي كانت في موقف المُدافع، هي المبادر والمعتدي، بمعزل كلّي عن الحق التاريخي في المقاومة، غير المرتبط بزمن».

بين «حماس» و«الجهاد»
دقّت إسرائيل إسفيناً آخر بين حركتَي «حماس» و«الجهاد»، حين أعلنت منذ بداية الحرب استفرادها بالأخيرة دوناً عن المكوّنات الفصائلية الأخرى. وقد كان الرهان الإسرائيلي منصبّاً على تعميق الشرخ المعنوي، ليس على مستوى قيادة الحركتَين فقط، إنّما على صعيد القاعدة الجماهيرية؛ إذ كانت تطمح إلى أن يشتعل خطاب التخوين والخذلان، حتى يصل إلى تراشُق إعلامي بين الحركتَين. وقد استطاعت، بالفعل، تحقيق جزء من أهدافها، بعدما احتقنت العلاقة بين القواعد الحزبية، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي تراشقاً في الاتهامات، حيث اعتبر عناصر من «الجهاد» أن «حماس» تركت الأخيرة وحيدة في الميدان للمرّة الثانية، تماماً كما فعلت، في المرّة الأولى، عقب اغتيال القائد بهاء أبو العطا في عام 2019. وفي هذا الإطار، قال محمد منصور، وهو الناطق الإعلامي باسم منصّة «ميثاق» المقرّبة من «الجهاد»، إن «الجهاد تُركت وحيدة»، متسائلاً: «هل دفْع العدوان عن شعبنا أصبح جريمة؟».
عملت إسرائيل على إظهار «الجهاد» وكأنها الطرف «المقامر والمغامر والمعتدي»


لكن وفقاً لمعلومات حصلت عليها «الأخبار» من مصادر «حمساوية» مطّلعة، فإن إسرائيل ربطت بين دخول «حماس» على خطّ المعركة، وبين «إعادة الأوضاع الإنسانية إلى ما قبل عشر سنوات»، أي إعادة تجفيف المصادر المالية، ومنْع المؤسّسات الدولية من العمل في القطاع، فضلاً عن وقْف المنحة القطرية وسحب تصاريح عمل 15 ألف عامل من غزة، إلى جانب التهديد بمضاعفة مستوى ضرب الأهداف المدنية، ولا سيما الأبراج السكنية والبنى التحتية. وتُدافع المصادر بأن «اختيار إسرائيل توقيت المعركة وتجهيزها لها على النحو الذي صفّرت فيه الأهداف على حدود القطاع البحرية والبرّية، هو ما دفعنا إلى عدم التدخّل للمحافظة على أن لا تتحوّل المعركة إلى حرب شاملة ليست المقاومة متجهّزة لها ولم تخترْ توقيتها، كما أن مبرّرات الجهاد لتصعيد الموقف ليست منطقية».
وعلى رغم الاحتقان الذي عاشته الأوساط الحزبية، إلّا أن قيادة «الجهاد» حاولت معالجة الحدث بحكمة، عندما أصدرت عدّة تصريحات أكدت فيها أنها تنسّق مع «حماس» ميدانياً ومعلوماتياً في هذه الجولة، فيما أنهى أمينها العام، زياد النخالة، حالة الجدل، بتوجيهه شكره إلى «حماس»، ووصْفه إيّاها بأنها «العمود الفقري لحاضنة المقاومة في القطاع».

صواريخ المقاومة
فضلاً عما تَقدّم، عمدت إسرائيل، في هذه الجولة، إلى مضاعفة الجدل حول مصدر القذائف التي تسبّبت بمجازر في صفوف المواطنين، ومن ذلك ما حدث في مساء يوم السبت، حين قصفت الطائرات المسيّرة الصهيونية مجموعة من المواطنين بالقرب من مسجد عماد عقل شرقي منطقة الترنس وسط مخيم جباليا، بدعوى ملاحقة مجموعة من المقاومين الذين كانوا عائدين من إطلاق دفعة من الصواريخ، ما أدّى إلى استشهاد 9 مواطنين معظمهم من الأطفال. وإذ نفى جيش الاحتلال مسؤوليته عن الحدث، فقد ادّعى أن صاروخاً فلسطينياً هو ما تسبّب بالمجزرة، مستنداً إلى مقطع مصوَّر يُظهر انحراف أحد الصواريخ عن مساره أثناء انطلاقه. لكنّ مصدراً أمنياً في «الجهاد» يوضح، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «الاحتلال تعمّد تنفيذ الغارات التي تسبّبت بمجازر، في المواقيت التي تشهد انطلاق دفعات كبيرة من الصواريخ، خصوصاً في "تاسعة البهاء"، أي الساعة التاسعة مساءً التي تطلق فيها السرايا دفعات من صواريخها، فيما يشيع في الوقت نفسه أنه لم يَقُم بنشاط أمني في المكان المستهدَف». ويتابع المصدر: «تعمّدت إسرائيل أيضاً أن تقوم بمحاولات إسقاط الصواريخ عبر القبّة الحديدية، فوق منازل المواطنين، حتى إذا نجحت أو فشلت، تسقط شظايا صواريخ القبّة أو صاروخ المقاومة على منازل المواطنين (...) كما أنه من المرجّح أن تكون إسرائيل قد استخدمت منظومة الليزر التي تحدّثت عنها مراراً في حرْف صواريخ المقاومة عن مسارها».