غزة | على رغم بدء إسرائيل معركة «وحدة الساحات» - «الفجر الصادق» وفق التسمية الإسرائيلية - على نحو غادر ومفاجئ، إلّا أن الوقائع التي شهدتها ساعات القتال الـ 50، أظهرت أداءً قتالياً لم يشكّل مفاجأة للعدو فقط، وإنّما أيضاً للحاضنة الجماهيرية والأوساط الحزبية في غزة، والتي رجّحت، عند نقطة معيّنة، أن تكون «كتائب القسام» قد بدأت بالمشاركة الفعلية في المعركة من دون أن تعلن ذلك. ووفقاً لآخر إحصائية نشرتها «هيئة البثّ الإسرائيلية»، فقد أطلقت «سرايا القدس»، خلال أيام القتال الثلاثة، نحو 950 صاروخاً، طاولت المستوطنات حتى عمق 90 كيلومتراً، أي ضِعف ما أطلقته في معركة «صيحة الفجر» عقب اغتيال القائد بهاء أبو العطا عام 2019، إذ لم يتجاوز عدد الصواريخ حينها هامش الـ 400.
«السرايا» بين معركتين
قصد جيش الاحتلال من إطلاق مسمّى «الفجر الصادق» على معركة الأيام الماضية، والتي بدأت باغتيال الشهيد تيسير الجعبري الذي تولّى قيادة لواء الشمال خلَفاً للشهيد بهاء أبو العطا، الإشارة إلى أن هذه العملية ستكون مشابهة لمعركة «صيحة الفجر» عام 2019، والتي ردّت فيها «سرايا القدس» على استشهاد قائدها، الذي اغتاله جيش الاحتلال في عملية مشتركة مع جهاز «الشاباك»، فشل فيها في اغتيال القائد العسكري العام لـ«السرايا»، أكرم العجوري، في دمشق، فيما قضى نجله معاذ في الجهوم. يمكن القول إن العدو قدّر أن اغتيال شخصية بحجم الجعبري على نحو مباغت، من الممكن أن يقود إلى الصدمة نفسها التي أحدثها اغتيال أبو العطا قبل ثلاثة أعوام. آنذاك، فقدت «السرايا» قدرتها على تنظيم صفوفها، وأظهرت عشوائية في القتال، تسبّبت في مضاعفة الخسائر البشرية في صفوف وحدتها الصاروخية، التي فقدت خلال ثلاثة أيام 16 مقاتلاً استُهدف معظمهم قبل أن ينجحوا في تنفيذ مهمات ميدانية.
تتشابه الظروف بين المعركتَين؛ إذ إن حركة «حماس» لم تشارك في تلك أيضاً، كما أن القائد الذي افتُتحت «الفجر الصادق» باغتياله، يشغل الدور نفسه الذي كان يؤدّيه أبو العطا، غير أن ما حدث خلال الأيام الماضية كان مفاجئاً.

إدارة مغايرة
مصادر مطلعة في المقاومة تَكشف، لـ«الأخبار»، أن قيادة «الجهاد» حاولت، عقب اغتيال الجعبري، أن تَخرج من حالة الانفراد في الردّ، كي لا تعطي إسرائيل امتياز تركيز الجهد المخابراتي والأمني على مكوّن واحد، ما سيقود إلى خسائر كبيرة على الصعيدَين البشري والمادّي، إلّا أنه وعلى رغم عقد ثلاثة اجتماعات على نحو متزامن مع قيادة «حماس»، واحد في غزة وآخر في بيروت وثالث في طهران، لم تستطع «كتائب القسام» اتّخاذ قرار المشاركة المباشرة في المعركة. وتضيف المصادر إن «السرايا» استغلّت الساعات ما بين 4:30 حتى الـ 9:00 مساءً، في تنظيم صفوفها، والتأكيد على العمل وفق الخطط العسكرية المعدّة سلفاً، إذ ضبطت الجنود، ولم تسمح بردّات الفعل الفردية، وشرعت في ما أضحى معروفاً شعبياً بـ«تاسعة البهاء»، في إطلاق أول دفعة من صواريخها على مستوطنات غلاف غزة حتى عمق 40 كيلومتراً، ثمّ تصاعدت في الرد الذي من المقرّر أن يطاول مدن العمق حتى تل أبيب تطبيقاً لتوجيهات الأمين العام، زياد النخالة. وحتى مساء يوم السبت، كانت «السرايا» قد أطلقت قرابة الـ 400 صاروخ، فيما اجتهدت وحدات «ضدّ الدروع» في البحث عن هدف نوعي على الحدود، لكن سياسة تصفير الأهداف والاستعداد المسبق للجولة حالت دون تَوفّر ذلك.
حاولت «الجهاد»، عقب اغتيال الجعبري، أن تَخرج من حالة الانفراد في الردّ


وعلى رغم الضربة الكبرى التالية التي مُنيت بها «سرايا القدس»، والمتمثّلة في اغتيال قائد المنطقة الجنوبية خالد منصور؛ إذ يحظى الأخير برمزية تاريخية كبيرة في أوساط المقاومين، فقد استطاعت «السرايا»، حتى صباح يوم الأحد، إعادة تنظيم صفوفها، وامتصاص الصدمة على نحو سريع، والمباشرة عقب انتهاء مراسم تشييع الشهداء، في ردّها الكبير. ففي تمام الساعة الـ 3:30 من بعد ظهر الأحد، شنّت ضربة صاروخية كبرى، أطلقت فيها على نحو متزامن قرابة الـ 200 صاروخ على 58 مستوطنة ومدينة امتدّت من غلاف غزة حتى مدن العمق، لتدوّي صافرات الإنذار في لحظة واحدة في مستوطنات سيديروت وأشكول وأسدود والعشرات من التجمّعات الاستيطانية في «الغلاف»، وصولاً حتى أسدود وبئر السبع وعسقلان، وانتهاءً إلى تل أبيب ومطار بن غوريون، فضلاً عن شواطئ نتانيا في عمق 90 كيلومتراً.
وهكذا، فإن «سرايا القدس» التي خاضت الجولة منفردة، وقدّمت 12 مقاوماً من جنودها وقادتها، جميعهم في حوادث اغتيال وليس في استهداف ميداني، استطاعت المحافظة على ريتم ناري متصاعد طوال 50 ساعة من القتال، فيما أظهرت طبيعة الأهداف التي وصلتها رماياتها إحاطة معلوماتية دقيقة بما يحيط في القطاع، فضلاً عن تمكّنها من تحييد منظومة «القبّة الحديدية» عبر استخدام تكتيك «الإغراق بالنار». غير أن المهمّ، وفق ما يؤكّده مصدر في «السرايا»، أن المقاومين الذين عملوا تحت أقصى ظروف الضغط، احتفظوا بالقدرة على إعادة تذخير راجماتهم مرّة تلو أخرى، من دون أن تتمكّن وسائط الرقابة المتطوّرة من رصدهم أو استهدافهم. ويضيف المصدر إنه «لم تُستهدف أيّ منصّة على نحو نقطي، وقد عملت وحدات المدفعية بسلاسة كبيرة من دون أيّ تهديد. ولو جاءت المعركة في سياق مغاير، لكان لوحدات الكورنيت وضدّ الدروع حضور كبير».