أكثر ما تحرص عليه إسرائيل في عمليّاتها التي تنضوي على أهداف متشعّبة، هو الوقت. والمقصود بالوقت هنا، ليس الفترة الزمنية المتعلّقة بتنفيذ الفعل، إنما الوقت المطلوب لاستيعاب ردّ الفعل وتطويقه. وفي هذا السياق، يمكن أن يُفهم السلوك الإسرائيلي الذي تلى عملية اعتقال القائد في «الجهاد الإسلامي» بسّام السعدي، من مخيم جنين قبل أيام قليلة. لِنعد ترتيب الأحداث؛ نفّذت قوة إسرائيلية خاصة من «حرس الحدود»، بالشراكة مع قوة من وحدة «ناحال» التابعة لجهاز المخابرات «الشاباك»، عملية الاعتقال. وبحدود الساعة العاشرة من مساء يوم الاثنين، طوّقت القوّة الإسرائيلية بيت السعدي، في الوقت الذي يشهد فيه المخيم اكتظاظاً في الشوارع وعلى الشرفات وعتبات البيوت، هرباً من الحرّ داخل البيوت. كذلك، يُعدّ هذا التوقيت، «فترة الذروة» في نشاط وتيقّظ المجموعات العسكرية التابعة لـ«كتيبة جنين» وغيرها. وبهذا اللحاظ، يبدو أن العدوّ أراد توجيه ضربة معنوية للكتيبة التي نالت شعبية وحضوراً جماهيرياً كبيراً في الآونة الأخيرة، وتقصّد من همجية الاعتقال، أن يزيد من حدّة استفزاز «سرايا القدس» (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، ليختبر مدى قدرة الحركة التي يتبنّى أمينها العام خطة «توحيد الساحات»، على التدخل العسكري من القطاع، لحماية الحالة الناشئة في جنين وعدد من مدن الضفة الغربية، من الاستفراد الإسرائيلي. ولا شكّ في أن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية تمتلك إحاطة دقيقة بالواقع الراهن في غزة، وبمدى التعقيد الذي يلفُّ عملية اتخاذ قرار التوجّه إلى التصعيد، في ظلّ السماح لعمال القطاع بدخول مدن الداخل المحتلّ للعمل - بعد 17 عاماً من منعهم من ذلك -، وما يجنيه هؤلاء من مداخيل عالية نسبة إلى مداخيل العمل داخل غزة. وليس سراً القول، إنه على الرغم من الجدل والمحاذير الأمنية والوطنية التي تحيط بهذا «الامتياز»، إلا أن حركة «حماس» معنيّة بـ«تنفيس» حالة المعاناة المعيشية التي كابدها سكّان القطاع طوال 15 عاماً من حُكم الحركة، وهذا أحد أبواب التخفيف من المعاناة.
مارست الوساطات الدولية والإقليمية أعلى مستويات الضغط على «الجهاد»


وبدا لافتاً في صبيحة اليوم التالي من عملية الاعتقال، أن إسرائيل تعيد تكرار السيناريو ذاته الذي انتهجته عشيّة "مسيرة الأعلام"، عبر رفع الجهوزية العسكرية إلى أقصى مدى على حدود القطاع، ونشر بطاريات "القبة الحديدية"، ونصب الحواجز العسكرية التي تقطع الطرق المؤدّية إلى الشوارع القريبة من السياج الحدودي مع غزة، لتصفير الأهداف أمام سلاح ضدّ الدروع، وإلزام سكان المستوطنات بتوخّي الحذر والاستعداد للتعامل مع أي صافرة إنذار مفاجئة، وأيضاً استنفار كتيبة دبابات والدفع بها إلى الحدود الشرقية للقطاع، فضلاً عن استدعاء 100 جندي من قوات الاحتياط، ونقل عدد كبير من الغرف المحصّنة إلى «الكيبوتسات» المحاذية للقطاع... كلّ ذلك، بالتزامن مع تصريحات استفزازية من المحلّلين العسكريين للصحف والقنوات العبرية، استهدف دفع «الجهاد» إلى الوقوع في حرج شعبي وتنظيمي. ولكن في المقابل، مارست الوساطات الدولية والإقليمية أعلى مستويات الضغط على «الجهاد»، كي تحجم عن الردّ أو على الأقل «تتفهّم» ردّة الفعل الإسرائيلية على الردّ، لكن مرور اليوم التالي (الثلاثاء) من دون إفصاح «سرايا القدس» عن نيّاتها، قَلَب ساعة الرمل. فعلى الرغم من إغلاق معابر القطاع (بيت حانون/ إيرز) في وجه العمال، و(صلاح الدين/ كرم أبو سالم) في وجه البضائع، وجدت إسرائيل نفسها «ضحيّة» الحسابات الخاطئة، إذ لا يمكن الإبقاء على حالة الاستنفار إلى ما لا نهاية. ويوم أمس، تعالت أصوات المحللين العسكريين في انتقاد المعادلة الضبابية القائمة، إذ قال آساف بوزايلوف في تصريح إلى قناة «كان» العبرية: «حتى لو انتهت جولة التوتر دون أي حادث، فهذا إنجاز كبير للجهاد الإسلامي، لأن منطقة بأكملها مغلقة، والآلاف معزولون، وتوقّفت حركة القطارات، ويتم الآن تعزيز القوات، كل ذلك بسبب تهديدات بعد اعتقال مطلوب من الضفة». وفي السياق ذاته، قال عضو «الكنيست» عن «الليكود» نير بركات، «(إننا) لسنا مستعدّين للحرب القادمة التي يمكن أن تندلع في أي لحظة، سوف نتعرّض لهجوم من لبنان وغزة وسوريا والضفة الغربية، وأيضاً من فلسطينيي الداخل (...) ما شهدناه في حارس الأسوار كان بروفة».

ما الذي تغيّر؟
قدّرت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ردة فعل «الجهاد» باتجاهين اثنين: إما المسارعة إلى ردّ تقليدي بإطلاق عدد من الصواريخ تجاه مستوطنات غلاف غزة، يردّ عليها سلاح الطيران الإسرائيلي باستهداف عدد من المواقع العسكرية التابعة للمقاومة، من دون أن يُحدث القصف إصابات بشرية تقود إلى الدخول في جولة تصعيد طويلة، وينتهي الحدث عند هذه النقطة، وتكون إسرائيل قد ارتاحت من وجود الشيخ السعدي في جنين، بكل ما يحمله حضوره من رمزيّة وإلهام وضبط لحالة التناغم بين «الجهاد» و«فتح»؛ أو أن تُفلح ظروف غزة الحالية، المقترنة بنبرة التهديد الإسرائيلي المرتفعة، تزامناً مع الحشود العسكرية الكبيرة على حدود القطاع، في كبح «الجهاد» عن الرد، وبهذا تحقّق إسرائيل إنجازاً معنوياً، على طريق إعادة ترميم ردعها الذي اهتزّ خلال معركة «سيف القدس»، فضلاً عن تأثير ذلك على الخلايا العسكرية لـ«السرايا» في الضفّة، والتي سترى أنها تُركت وحيدة، على رغم تعهّدات الأمين العام لـ«الجهاد الإسلامي» زياد النخالة، بـ«منع الاستفراد بهم».
لكن ما حدث حتى مساء أمس، كان خارج حسابات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، إذ تشير حالة الاستنفار المستمرّة إلى عدم تعامل «الجهاد» بإيجابية مع الوسطاء، ومحافظتها على مستوى من الضبابية، وهو ما يعيدنا إلى مربّع «الوقت» من جديد، إذ ينتظر الإسرائيليون أسابيع حاسمة على الجبهة الشمالية، حيث يصعّد «حزب الله» تهديداته في ملف الغاز، وآخر ما تتمناه إسرائيل هو أن توفّر الذرائع الميدانية لتوتر الميدان في غزة والضفة، في الوقت عينه. وفيما دعا مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد إلى اجتماع عاجل لـ«مناقشة قضية غزة»، يبدو أن «الجهاد الإسلامي» التي تلقّت أكثر من 15 اتصالاً من وسطاء عرب ودوليّين، قرّرت إدارة اللعبة على نحو مغاير، إذ إن استغلال الموقف يقتضي بأن يكون ثمن العودة إلى الهدوء إطلاق سراح الشيخ بسّام السعدي في أقرب وقت. وهنا، سيكون على إسرائيل أن تعيد حساباتها مطوّلاً، فيما ستترتّب على تنازل كهذا من قِبل العدو، آثار معنوية هائلة على بيئة المقاومة في الضفة وغزة، وعكسية على الجبهة الداخلية في الكيان.