أحاول منذ بضع ساعات الكتابة عن مخيم اليرموك، لكن وفي الحقيقة لم أتمكن، أكتب وأصل لعدد مناسب من الكلمات، وسرعان ما أحذف كل شيء، وأبدأ من جديد، ومرة تلو مرة، توقفت... وفكرت بحق لماذا لم أستطع الكتابة عن ذاك المكان الأول، الذي أحن إليه.
هل انتهت الكلمات لدي، هل انتفت أو خفتت قيمة المخيم داخلي، لا أعرف ما الأمر تماماً، ولكن الأقرب إلى رؤيتي وعقلي أن تلك الحجارة القليلة أو الكثيرة المدمرة في المخيم، قد قتلت، كانت بيوت أهل وأصحاب وأقارب؛ كانت أحلام هؤلاء معرشة على تلك الجدران، ومن بيت إلى بيت، ومن مخيم الآباء صعوداً نحو مخيم الأبناء، كانت تجد تلك الأحلام والأمنيات طريقها نحو السماء.
نحن أهل اليرموك خرجنا، وحسب علمي لم نترك هناك حصاناً وحيداً "ليؤنس البيت"، لكننا تركنا خلفنا فعلاً كثيراً من الشهداء، وموتى كثر، وذكرياتنا الكثيرة في المكان الذي لم نعرف غيره، ولم نفكر كثيراً في الخروج منه بمعنى الاستقرار بعيداً عن أصدقاء كبرنا وركضنا ولعبنا معاً في حاراته التي لم تكن ضيقة ولا تنطبق مواصفات التراجيديا الفلسطينية عليها.
وأسأل نفسي دوماً، لماذا لم نتمسك باليرموك، ورحل معظمنا أو فكر في الرحيل بعيداً، ليكون لاجئاً في مكان آخر، يؤمن له حياة أخرى، هل فقط حلم أن يكون للفلسطيني اللاجئ جنسية يورثها لأولاده وأحفاده، هل نحن في هذا الحلم نفرط بحلم التحرير والعودة؟
بعضنا قد يراوغ في الأمر، ليعتبر أن ما حصل ليس تفريطاً باليرموك وعدم تمسك بالمخيم، إنما هي الحرب، بكل الأحوال نحن تركنا المخيم وابتعدنا، هذا هو الواقع، والعودة إليه باتت اليوم صعبة للغاية، كذلك من وصل إلى أوروبا، أو من وجد حياة أفضل بأي مكان لا أعتقد أنه سيترك كل ما حصله ليعود إلى مكان ليس هو فلسطين إلا بالمعنى الرمزي، ولأن الجيل الحديث تغير، واكتسب وعياً جيداً، فقد أصبح واقعياً للحد القادر من خلاله التمييز بين الواقع والرمز، واختيار الخطوات الواقعية لتحقيق الأمل بعودته الحقيقية إلى فلسطين، من دون وقوف على أطلال المكان في الجولان أو الجنوب، أو حتى أطلال المعنى.
ما الذي سيكون عليه المخيم بعد أن يعود؟ هل ستحكمه الميلشيات؟ هل ستحكمه الفصائل؟ هل ستعود الدولة السورية إليه؟ لا إجابة واضحة لدى أحد... والأهم من سيعود من نازحي المخيم في ضواحي دمشق، سيعود ليس لأن في المخيم أمانه واطمئنانه، سيعود لقلة موارد العيش التي بوسعها تأمين أجار البيوت المرتفعة جداً في الأماكن التي نزح إليها أهالي المخيم من الفلسطينيين.
اعتدت في مقالاتي السابقة شن هجوم على الفصائل الفلسطينية، لا أتعمد ذلك إطلاقاً، ولكن ما يحدث وما يرد من معلومات هو الدافع لذلك، فالمعلومات أخيراً تقول إن الفصائل اختلفت في ما بينها على آليات إخراج بقية المسلحين من داخل المخيم، فبعضها مع الحل العسكري في مواجهة من سيرفض الخروج من المخيم. إلا أن هناك أيضاً من يرفض تدخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة، في حين الأخيرة ترفض هذا الطرح.
هذه المعلومات المسربة من اجتماعات مختلفة للفصائل، حتى لو كانت قد لفقت لي، ولم تكن صحيحة تماماً، إلا أن ما يوجب صحتها أو قربها من الصحة، هو أكثر من ثلاث سنوات، لم تتمكن الفصائل الفلسطينية خلالها من حل أزمة مخيم يسمى عاصمة الشتات، وفيه أكثر من 150 ألف فلسطيني، باتوا بكل أصقاع العالم، منهم بلا مأوى، ولا حتى حصانة.