رفْض «فنجان القهوة»
الحلّ المعتاد لجرائم القتل في الضفة الغربية وغيرها من الأراضي المحتلّة، يكون عن طريق حضور «جاهة إصلاح» من كبار رجال العشائر إلى ديوان عائلة القتيل، حيث يتمّ الاعتراف بالجرم وتحديد هُويّة القاتل، قبل أن يُبرَم صكّ عشائري يُعرَف بـ«العطوة» ويتضمّن عدّة شروط، من بينها: دفع «الديّة الشرعية» بالمال، وترحيل أقارب القاتل من الدرجة الأولى - إذا كان القاتل والمقتول من المنطقة نفسها -، مقابل اشتراط عدم الأخذ بثأر القتيل، وترك الباب للمعالجة الأمنية والقانونية عبر القضاء. ويرفض كثيرون في المجتمع الفلسطيني هذا الحلّ، لاعتقادهم بأنه لا ينزع جذور المشكلة، ولا يساهم في تقليص رُقعة الجرائم، بل أصبح الفلسطينيون يتندّرون على التسوية العشائرية، بالقول: «القتل مقابل فنجان القهوة»، أو «ديتك فنجان قهوة»، أو «حقك رصاصة بثلاث شيكل». في نابلس مثلاً، قبل يومين، تظاهَر أهالي الممرّض فؤاد عيد الذي قُتل عام 2017 طعناً، احتجاجاً على الإفراج عن أحد المشاركين في قتل ابنهم طعناً، على رغم أن تداعيات الجريمة جرى حلّها عشائرياً آنذاك، لكن بشرط سجن القاتل والمتعاونين معه.
تتكاثر الاتهامات للسلطة الفلسطينية المسؤولة عن استمرار المظاهر الكارثية في الضفة
أمّا الوجه الأخطر لهذه الأزمة، فيتمثّل في وصول مظاهر الانفلات إلى قلْب الجامعات الفلسطينية، ومنها جامعة الخليل التي شهدت في منتصف تشرين الثاني شجاراً بين طلَبة، مثّل امتداداً لآخر بين عشيرتَي الجعبري والعويوي، ما دفع الجامعة إلى تعليق الدوام. أما جامعة القدس في أبو ديس، فقد شهدت عمليات إطلاق نار واقتحام عناصر مسلّحين لموقف المركبات، وتحذير السائقين من ركْن مركباتهم في شارع محاذٍ للجامعة، الأمر الذي أدّى أيضاً إلى تعليق الدوام وإخلاء الطلَبة، عقب تكرار إطلاق النار في محيط الصرْح، خلال الشهر الماضي. وفي جامعة بيرزيت، نشب أخيراً خلاف بين الكتل الطالبية من جهة، و«حركة الشبيبة الفتحاوية» من جهة أخرى، على خلفية الاعتقال السياسي ورفض الملاحقات، حيث اتّهمت الأولى الثانية، بالاعتداء على منسّق «كتلة الوحدة الطلابية» (الذراع الطالبي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين)، مندّدةً بقمْع الحريات، وداعيةً «الشبيبة» إلى عدم الاشتراك مع السلطة الفلسطينية في تلك الممارسات. وفي الحالة الأخيرة أيضاً، دفَع تصاعُد الخلاف إدارة الجامعة إلى تعليق الدوام والتوجُّه للتعليم عن بُعد لعدّة أيام.
أسباب تصاعد الفلتان
يعتقد وزير التربية والتعليم الأسبق، المُحاضِر الجامعي ناصر الدين الشاعر، أن تفريغ الجامعة من الهمّ والنشاط الوطنيَّين يمثّل السبب الرئيس لتصاعد الخلافات بين الطلَبة على أمور لا قيمة لها، بينما من المفترض أن تشكّل المسألة الوطنية القاسم المشترك الأكبر الذي يجمعهم. ويضيف الشاعر، في تصريحات صحافية، إلى أن «الإفلات من العقاب، وشعور الجناة بأنهم محميّون بالواسطة والعلاقات الشخصية، يجعلانهم يعودون إلى افتعال المشكلات واختراق القانون». وهو ما يوافق عليه أيضاً عددٌ كبير من الخبراء والسياسيين ورجال القانون الفلسطينيين، الذين ينادون بتغليظ العقوبات بحق مرتكبي جرائم القتل العمد. لكن في المقابل، يرى محافظ جنين، أكرم الرجوب، أن تصاعد الجرائم يعود إلى «غياب الثقافة المجتمعية القائمة على الاحترام وتقبّل الآخر»، محمّلاً المسؤولية في ذلك لـ«كلّ فئات المجتمع، بدءاً بالأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية». وإذ يرفض إلقاء اللوم على أجهزة أمن السلطة، فهو يعتبر أن «الأمن لا يستطيع أن يضع شرطيّاً بين كلّ طالب وآخر، والطلَبة أنفسهم بحاجة إلى تعزيز ثقافة الحوار واحترام القانون». من جهة أخرى، يرى محلّلون أن الخلافات في الجامعات الفلسطينية إنّما هي امتداد للواقع السياسي، إذ تمثّل «الشبيبة الطلابية» السلطة الفلسطينية؛ بالنظر إلى أن الأولى هي الذراع الطالبي لحركة «فتح» التي تتزعّم السلطة، وبالتالي فإن مواقفها غير منفصلة عن سياسة رام الله وأجهزتها الأمنية.