كان إشعال انتفاضة الأقصى الثانية عام 2000، إقراراً من ياسر عرفات بأن «اتفاقية أوسلو» قد استنفدت الإطار الزمني الخاص بها، من دون تحقيق أيّ تقدم على صعيد الإمساك بسيادة حقيقية تؤسّس لبناء دولة. أدرك الزعيم السابق للمنظّمة أن الإبقاء على الوضع القائم آنذاك لن يحمل أيّ جدوى في المدى المنظور، في ظلّ توسّع الاستيطان على نحو جنوني، وقضْم المزيد من الأراضي التي كان من المفترض أن تمثّل الحيّز الجغرافي للدولة المنشودة. ليس الحديث، هنا، عن «الربح السياسي» الذي أراد عرفات تحقيقه من تفجير الوضع الميداني على الأرض في انتفاضة الأقصى الثانية، وهو الذي كان مسكوناً طوال سنوات الكفاح المسلّح التي سبقت تشكيل السلطة عام 1994، بالاستثمار السياسي لأيّ تحرّك عسكري، ومن ذلك ما ذكره يزيد صايغ من أن عرفات أراد أن يقول للإدارة الأميركية من خلال تنفيذ عملية دلال المغربي في المنطقة الساحلية (حيفا - عسقلان) إن تجاوزه على طاولة «حوارات السلام» المصرية - الإسرائيلية ليس مقبولاً، وإن قوات المنظّمة مازالت بعافيتها بالقدر الذي يؤهّلها للضرب في أيّ مكان تريده؛ لكن المهمّ، في هذا السياق، هو ما يذكره فريح أبو مدين، صندوق «أبو عمار» الأسود، في شأن إرهاصات التوجّه إلى إشعال الميدان عام 2000: عرفات، وفقاً للرجل الذي قارب عمره الثمانين عاماً، أسرّ له، أن أكبر خطيئة يمكن أن يرتكبها قائد فلسطيني، هي أن يقبل باستمرار السلطة في ضوء الدور الوظيفي المناط بها.يقول أبو مدين، في حديث سابق إلى «الأخبار»: «أدرك عرفات أن الإسرائيليين، ومِن خلفهم الإدارة الأميركية، لن يعطوه أكثر ممّا أعطوه إيّاه: مظاهر السلطة، من دون سلطة، شكل الدولة وبروتوكولها الشكلي، من دون دولة حقيقية». والأخطر من ذلك أنه كان المطلوب من الراحل، أن يدفع على نحو مستمرّ ثمن استمرار بقاء السلطة على رغم أنها مصلحة إسرائيلية صرفة، وتَمثّل ذلك الثمن في تقديم تنازلات متزايدة على طاولة المفاوضات، إلى جانب المطالبة الإسرائيلية الدورية برفع مستوى «التنسيق الأمني»، ثم ما تلاها من اتّباع إسرائيل استراتيجية «الاندماج الأقصى أو الجسور المفتوحة»، التي نظّر لها موشيه ديان خلال العقود الثلاثة الأولى من قيام إسرائيل. ووفقاً لنظرية ديان، فإن على المجتمع الفلسطيني أن يندمج بشكل كامل في الكيان الإسرائيلي، وأن يتّكل على إسرائيل في الحصول على طعامه وكهربائه وغذائه ومياهه وفرص العمل وأسباب البقاء. فمن وجهة نظر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، فإن هذه السياسة، التي كان يشير إليها وهو يشبك أصابع يديه، من شأنها أن تذوّب الوجود الفلسطيني وتشغله بحاجاته اليومية، فضلاً عن أنها تجعله مضطراً للتنسيق مع الجيش الإسرائيلي في أدقّ احتياجاته اليومية.
أدرك عرفات أن «التنسيق الأمني» سيتجاوز كونه مطلباً إسرائيلياً إلى أن يصبح حاجة فلسطينية


أدرك عرفات، خلال السنوات التي تبعت «أوسلو»، أن «التنسيق الأمني» سيتجاوز كونه مطلباً إسرائيلياً، إلى أن يصبح حاجة فلسطينية، وأنه سيتحوّل من كونه عملاً بروتوكولياً توكل به هيئة رسمية واحدة من هيئات السلطة تخضع للرقابة، إلى أن يصبح سلوكاً فردياً يقوم به جنود الأمن الوطني والشرطة، وحتى مدراء المستشفيات والمؤسسات التعليمية، وستدفع كلّ هذه الفئات فاتورة كبيرة من المعلومات والخدمات الأمنية لإسرائيل، في مقابل الحصول على تصريح مرور أو إقامة فعالية أو الحصول على ترخيص بناء أو تصريح عمل. تلك الوقائع جميعها، إذا ما اقترنت بحالة الإحباط التي وصل إليها عرفات، ومستوى التنازلات المطلوبة، أورثته قناعة بأنه لن يغدو ببقائه في كرسيّ السلطة، أكثر من كونه خادماً أمنياً للاحتلال. من وجهة نظر فريح أبو مدين، فإن «أبو عمار» قرّر عن قناعة مطلقة إشعال الكفاح المسلّح من جديد، وقد كان مسكوناً بانتصار «حزب الله» عام 2000، لكن هل كان مؤمناً بالدخول في حالة مواجهة مستمرّة؟ لا يمتلك صديق عرفات المقرّب إجابة دقيقة عن تساؤل كهذا، لكن السلوك النضالي النفعي على المستوى التكتيكي لعرفات يجيب بـ: «لا». غير أن التفاصيل التي أحاطت ببدء الانتفاضة، وبإعادة بناء ذراع عسكري لـ«فتح» هو «كتائب شهداء الأقصى»، عبر التواصل مع جهاد أحمد جبريل، وطلبه منه أن يربطه بالشهيد عماد مغنية، تحمل إشارات مغايرة عن انقلاب عرفات على تاريخه. يقول أبو مدين: «كانت ردّة الفعل الإسرائيلية على الانتفاضة أكبر من الحدث نفسه، إذ جرّدت إسرائيل السلطة من مكتسبات أوسلو بهدمها مطار غزة الدولي، وإعادة احتلال الضفة. حينها، نجح عرفات في الوصول إلى مغنية، وقال في رسالة مقتضبة: أوسلو انتهت، والسلطة لا ضرورة لبقائها، أرسلوا السلاح».