قد يصحّ ما يردِّده جيش العدو عن أنه مستعدّ للعديد من السيناريوات العملياتية على الحدود مع قطاع غزة ومع لبنان وسوريا، لكن لم يكن يخطر في باله أن يتسلَّل مقاوِم من القطاع إلى الجدار الفاصل، ويُدخِل مسدّساً في فتحة القنّاص ويطلق النار عليه. فهذا من الإبداعات التكتيكية التي لا تستطيع مخيّلة القادة العسكريين الإحاطة بها، أو ضبطها. أضف إلى ذلك، أن كلّ ما يصنعه عقل إنسان، يمكن لعقل إنسان آخر، أن يبتكر له حلولاً بمستوى أو بآخر. وما ينطبق على المستوى العسكري، ينطبق أيضاً على المستوى السياسي، الذي حاول، في الفترة الأخيرة، إشاعة مفهوم مفاده بأن ما كان إزاء القطاع، لن يكون لاحقاً، في إشارة إلى تغيير معادلة الردّ. إلّا أن معركة «سيف القدس» أثبتت ــــ بالممارسة ــــ أن ما كان قبلها، لن يكون بعدها، في أكثر من بعد استراتيجي.لم يكن بإمكان قيادة العدو السياسية أيضاً تجاوُز حادثة استهداف القناص لأكثر من اعتبار ذاتي وموضوعي، ولم يكن بإمكانها أيضاً الذهاب بعيداً في الردّ العسكري واعتداءاتها. فَشَنُّ العديد من الاعتداءات المضبوطة مقرونة بمخاوف ظهرت جلياً في مواقف نفتالي بينيت، الذي أعلن بعد تقدير وضع في فرقة غزة مع وزير الأمن بيني غانتس، ورئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، عن أن «الجيش وقيادة المنطقة الجنوبية وفرقة غزة العسكرية، جاهزون لأيّ سيناريو».
تُجسِّد الخيارات والقيود الكامنة في الأداء العملاني لجيش العدو، المعضلة الكلاسيكية التي تواجهها إسرائيل في أكثر من ساحة، وتحديداً في مواجهة قطاع غزة. فقادة العدو يدركون أن الامتناع عن الردّ، أو الاكتفاء بالردّ الشكلي، يعني توجيه رسالة ضعف، فضلاً عن ذلك سيُقرأ على أنه مؤشر إلى تآكل الردع، في الوقت الذي يعملون فيه على محاولة تعزيزه، في أعقاب معركة «سيف القدس». وفي حال توجيه ردّ قاس، فإن ذلك سوف يؤدّي إلى ردّ صاروخي من القطاع باتجاه المستوطنات الإسرائيلية، وصولاً إلى جولة قتالية جديدة عقيمة ستعيد إنتاج الوضع القائم من دون أيّ إنجازات نوعية. لذا، فإن المشكلة بالنسبة إلى بينيت، أن أيّ جولة عسكرية واسعة، ستقوّض صدقيته، بالمقارنة مع المزايدات التي كان يقوم بها في ظلّ حكومة بنيامين نتنياهو، وخاصّة بعد أن يكتشف قيود القوّة، عندما يكون في موقع اتّخاذ القرار، وأنه ليس لدى إسرائيل حلول سحرية للتحدّي الذي تمثّله المقاومة في قطاع غزة. وسيجد نفسه مضطراً إلى التكيُّف مع أن «ما كان هو ما سيكون»، بخلاف ما قاله وزير الأمن الإسرائيلي، قبل أيّام، من أن «ما كان لن يكون».
ليس لدى إسرائيل حلول سحرية للتحدّي الذي تمثّله المقاومة


مع ذلك، تحضر عدّة عوامل إضافية في حسابات قيادة العدو، تفرض على بينيت أن يكون أكثر انضباطاً، من ضمنها الحرص على عدم التأثير سلباً على الدور الذي تؤدّيه القاهرة منذ ما بعد معركة «سيف القدس»، في أكثر من عنوان وقضيّة. وأيضاً، يحرص بينيت على عدم التورُّط في مواجهة عسكرية مع قطاع غزة عشية توجّهه إلى واشنطن، يوم غدٍ الثلاثاء، حيث سيلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن، الخميس المقبل. والأخير يتبنّى مقاربة مختلفة إزاء الوضع في فلسطين، عن سلفه دونالد ترامب. ومن ضمن الذين عبَّروا عن حضور هذا الاعتبار أيضاً، وزير الشتات الإسرائيلي، نحمان شاي، الذي توعّد بأن إسرائيل ستوجّه «ضربة شديدة» لقطاع غزة إثر المواجهات عند السياج الأمني المحيط بالقطاع، لكن ذلك لن يتم خلال زيارة بينيت، إلى الولايات المتحدة. ولفت شاي الى أنه «لا يمكن استدراجنا إلى توقيتهم (الفصائل في القطاع)، وهم يُملون الوتيرة». ويرى رئيس الوزراء الإسرائيلي في اللقاء مع بايدن، مناسبة أيضاً لتعزيز مكانته وإظهار نوع من الاحتضان الأميركي لحكومته، في مقابل التشكيك الذي يتعرّض له من قِبَل رئيس المعارضة، بنيامين نتنياهو. وهو بذلك، لا يريد لأيّ حدث أن يساهم في التشويش على الزيارة. كانت المُحدَّدات التي تحكم الأداء الإسرائيلي إزاء قطاع غزة ولا تزال، تفرض عليه أداءً أكثر انضباطاً، وإذا ما تدحرجت حادثة معيّنة إلى مواجهة عسكرية يحرص على أن لا تتحوّل إلى معركة شاملة، وإذا ما تدحرجت إلى السيناريو الذي لا يرغب فيه، يسعى إلى أن لا تكون مفتوحة زمنياً. وتدرك قيادة العدو أنها مضطرة إلى أن تأخذ في الحسبان العديد من العوامل المحلية الداخلية، وخيارات إسرائيل وكلفتها، وأولوياتها في مواجهة تهديدات أشدّ خطورة في الشمال والشرق، قبل أن تتّخذ أيّ قرار عدواني واسع ضدّ القطاع.
بالتوازي مع كل هذه العوامل، تبقى حكومة بينيت أسيرةَ شعارات عالية السقف، وعقدة إثبات كفاءتها وأهليّتها للتصدّي للمخاطر، لكنّها مكبوحة أيضاً بقيود معادلات القوّة والسوابق التي حفرت في وعي مؤسّسات القرار السياسي والأمني.