لا تتعامل السلطة الفلسطينية مع خصومها بالطريقة ذاتها التي تتعامل بها مع العدو الإسرائيلي، فهي تكشّر عن أنيابها تجاه منتقديها، بينما في المقابل تتحنّن على الإسرائيليين. لن يكون الناشط نزار بنات آخر مَن يقتله رجال أمن السلطة، إذ إن عقلية العصابة تَحكُم تصرّفات هؤلاء، وعلى رأسهم كبيرهم محمود عباس. التعيينات في الدولة الفلسطينية التي يكافح عباس لأجلها قائمة على المحسوبيات، والأجهزة الأمنية تتبع لأفراد ولاؤها لهم وليس للدولة المزعومة. هذه ليست الدولة التي يريد اللاجئون العودة إليها، وهذه ليست الدولة التي حلم الشهداء بها، وهذه ليست الدولة التي يمكن لأحفاد الشهداء أن يفاخروا بأن أجدادهم ضحّوا لأجلها. السلطة/ الدولة التي لا تتحمّل "فيديو" لا يجب أن تُقام وتجب محاربتها. اغتيل الناشط بنات لانتقاده السلطة، فهاجم رجال الأمن بيته، وضربوه وسحلوه وقتلوه ورموه في برّادات الموتى، كلّ ذلك لأجل كلمة قالها الرجل. عباس ورجال أمنه اعتادوا على قمع معارضيهم. فهو منذ أيام أَبعد أنصار القائد "الفتحاوي"، الأسير مروان البرغوثي، عن جلسات المجلس الاستشاري والثوري في "فتح"، لأنهم ترشّحوا ضدّ قائمته في الانتخابات. كما طرد ناصر القدوة، ابن شقيقة الراحل ياسر عرفات من الحركة، لأنه ترشّح أيضاً ضدّ قائمته. محمود عباس لا يتصرّف كرجل دولة كما يدّعي، فهو يتغاضى عن مساوئ رجاله إلى أن يمسّوا به. مثلاً، أبعد القيادي "الفتحاوي" محمد دحلان عندما انتقد الأخير فساد أولاده. قبل ذلك، كان دحلان شريك عباس في كلّ شيء، في الفساد وفي التواطؤ ضدّ عرفات، إلّا أن الشراكة فُضّت فقط عندما مسّ دحلان بأولاد عباس.
سلطةٌ بعقلية كهذه لا يُمكنها أن تبني دولة، ولا أن تدّعي أنها شبه دولة. ورجال أمن السلطة (بعضهم وبالتأكيد ليس كلّهم) أصبحوا يشبهونها، ويتصرّفون مثلها. فهم إذا دخلت مجموعة من المستوطنين إلى رام الله وتاهت فيها يعيدونها إلى نقاط جيش الاحتلال مع العصائر في أيدي أفرادها، وإذا هاجمت قوات العدو مراكز أجهزة الأمن وقتلت عناصر منها، تُشكَّل لجان تحقيق مشتركة مع الإسرائيليين لـ"معالجة مكامن الخلل"، مثلما جرى منذ أيام في جنين التي استشهد فيها عنصران أمنيان بعد اشتباك مجموعتهم مع وحدة من المستعربين. هذا التحوّل في عقيدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، سببُه عباس ورجاله، فهو فكّك وأعاد بناء كلّ الأجهزة التي اشتبكت مع العدو خلال الانتفاضة الثانية، وعمل على ترسيخ قدسية "التنسيق الأمني". وما ساهم في ذلك أيضاً هو تغيير آلية التواصل مع الاحتلال الذي صار "ينسّق" مباشرة مع عناصر الأجهزة الأمنية والضبّاط الصغار.
سلطةٌ بعقلية كهذه لا يُمكنها أن تبني دولة، ولا أن تدّعي أنها شبه دولة


اغتيال بنات أظهر بشاعة السلطة الفلسطينية. والقمع الجاري في رام الله شبيهٌ بما تشهده منطقة تحكمها عصابة، ممنوع انتقادها، ممنوع الخروج في تظاهرات ضدّها، وممنوع الاشتباك مع حلفائها، أي العدو الإسرائيلي في هذه الحالة. في رام الله، أجهزة أمن السلطة تراقب أنفاس الفلسطينيين كرمى لعيون الإسرائيلي، وخوفاً على مصلحته. اغتيال بنات لا يجب أن يمرّ مرور الكرام. الرجل لم يكن على رأس مجموعة مسلحة، لم يهدّد أمن السلطة أو العدو (ولي نعمة عباس)، ولم يملك شيئاً سوى الكلمة. أجهزة الأمن قرّرت مواجهة الكلمة بالقمع والضرب حتى الموت. رفْض ما جرى مع بنات واجب علينا. فالدولة التي نحلم بها عند تحرير فلسطين لا يجب أن تقتل معارضيها، كما لا يجب أن تذهب دماء الشهداء الذين ضحّوا من أجل تحرير فلسطين هدراً بسبب رفض عباس وأعوانه تقبّل انتقاد هنا أو هناك. في عام 2016، اعتقلت السلطة الشهيد باسل الأعرج بحجّة أنه كان عضواً في خلية تنوي تنفيذ عملية فدائية. وفي أقبية سجونها عذّبته وسلّمت نتائج التحقيق معه إلى العدو قبل أن تطلق سراحه. وفي عام 2017، وبعد أشهر من إطلاق سراح باسل من سجون السلطة، اغتاله جيش العدو وسط رام الله، وذلك بعد مداهمة البيت الذي كان يختبئ فيه. في تلك الليلة، اختفى عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فاتحين المجال، كما العادة، لجيش العدو ليقتحم رام الله ويقتل "المثقف المشتبك".
السكوت عن السلطة لم يَعُد مقبولاً. لو افترضنا أنها سلطة مُقاوِمة، وكلام بنات يؤثر على الجبهة الداخلية ونفسية المقاومين، لكان يمكن تبرير ما فعلته بحق الرجل بصعوبة، لكنها سلطة باعت نفسها للعدو، و"التنسيق الأمني" بالنسبة إليها أقدس من وجودها، وفوق ذلك تمنع ناشطاً من قول رأيه. هذه السلطة تجب إزالتها، وعلى الشرفاء في الأجهزة الأمنية الفلسطينية أن يبدأوا بالخطوة الأولى، بإيقاف "التنسيق الأمني"... غير المقدّس.