نابلس | «الإرباك الليلي» أسلوب مقاومة شعبية انطلق من حدود قطاع غزة، وسرعان ما انتقل اليوم إلى عدد من البؤر الاستيطانية الجديدة في شمال الضفة الغربية. والظاهر أن هذا الأسلوب، الذي يُعدّ مجدياً مع التراكم، بات يتمدّد داخل الضفة نفسها، وليس من غزة إلى الأراضي المحتلة فقط. وقد انطلق «الإرباك الليلي»، بعد انتهاء معركة «سيف القدس»، قرب البؤرة الاستيطانية «أفيتار»، المقامة على أراضي جبل صبيح في بلدة بيتا جنوبيّ نابلس، بمجهود شعبي بحت، وطَوّر نفسه بنفسه بالتجربة والملاحظة مع الأيام. واقتصرت الفعاليات في الأيام الأولى على إشعال إطارات مطّاطية قرب المستوطنين، ثمّ دخلت وحدات بأساليب جديدة، مِن مِثل وحدة «البوق» التي تشمل عدّة شبان يحملون أبواقاً تصدر أصواتاً مزعجة وقوية ويطلقونها باتجاه المستوطنة، إضافة إلى وحدة «الرصد» التي تحمل مناظير مهمّتها الأساسية مراقبة المستوطنة الجديدة والتحرّكات العسكرية قربها بهدف الاطّلاع على الوضع العام واحتمال نصب جيش العدو كمائن في الجبل في محيط المستوطنة. وإلى جانبهما تأتي وحدة يمكن تسميتها بـ»الحاضنة» أو «الدعم اللوجستي» للإرباك، وهي تعمل على تقديم الطعام والمياه والمشروبات للشبّان المتظاهرين وللصحافيين، في عملية تمرّ بعدّة مراحل، تبدأ بنساء بلدة بيتا عادة، ثمّ مروراً بشبّان يتكفّلون بإيصال الطعام إلى المتظاهرين، علماً بأن عدداً كبيراً من أهالي البلدة يوزّعون المياه والسكاكر والطعام بشكل شخصي عبر الحضور إلى مكان الفعاليات. وأخيراً، بدأت وحدة التفجير عملها، وهي المختصّة بتجهيز قنابل صوتية لتفجيرها قرب المستوطنة، فينبعث اللهب والنار مع صوت قوي عند التفجير.ويتظاهر المئات في بلدة بيتا جنوبيّ نابلس منذ أسابيع، في مشهد بدا مفاجئاً للمستوطنين، الذين تحدّثت وسائل إعلامهم، ومنها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، قبل أيام، عن انتقال «الإرباك الليلي» من حدود قطاع غزة إلى نابلس، فيما أظهر مقطع فيديو نشره أحد المستوطنين مدى انزعاجه من هذه الفعاليات، وخصوصاً أصوات البوق على مدار الساعة ليلاً. ويؤكد المتظاهرون، في رسالة مصوّرة، أن «الإرباك الليلي» يندرج في سياق الفعل المقاوم الشعبي، وليس بإشراف أيّ حزب أو فصيل سياسي. اللافت أن قرية بيت دجن شرقيّ نابلس استلهمت هي الأخرى تجربة بيتا، إذ تستمرّ الفعاليات الليلية فيها لليوم الثالث على التوالي. وتبعتهما قرية يتما التي تشهد أطرافها فعاليات مماثلة، في مشهد يشي باحتمالية امتداد «الإرباك الليلي» إلى مناطق أخرى في الضفة، ليصبح أسلوب مقاومة شعبية ثابتاً في مواجهة البؤر الاستيطانية الجديدة. ومن ميزات الإرباك الليلي انخفاض تكلفته حتى الآن ونتائجه العالية تدريجياً، فهو يرفع مستوى الوعي الوطني، ويزيد من تماسك الحاضنة الشعبية للمقاومة، ويعزّز الوعي الجمعي للأجيال الجديدة بخيار مواجهة العدو، من جهة؛ ومن جهة أخرى، يسهم في إزعاج المستوطنين وإقلاقهم على مدار الساعة.
لبلدة بيتا تحديداً تجربة تاريخية ومحطّات فارقة في التصدّي للمستوطنين والاستيطان


وليست المحاولة الإسرائيلية لإنشاء بؤرة استيطانية في جبل صبيح هي الأولى، بل سبقتها عدّة محاولات نجح خلالها المستوطنون في إقامة عدّة كرفانات لفترة لا تتجاوز أسبوعاً، ثمّ أُجبر العدو على طرد المستوطنين تحت ضغط مواجهات شعبية عنيفة وضخمة. وتصرّ بلدة بيتا التي تفتخر بعدم وجود مستوطنات على أراضيها على مقاومة أيّ محاولات استيطانية جديدة، لذلك يكرّر المستوطنون محاولاتهم لإنشاء بؤرة على جبل صبيح كلّ عدة سنوات، تحت العنوان نفسه: «أفيتار». ويبدو، هذه المرّة، أن المستوطنين استغلّوا المعركة الأخيرة مع قطاع غزة، وانشغال الرأي العام بها، ليقيموا عدّة منازل متنقلة، تحوّلت لاحقاً وسريعاً إلى مستوطنة، دشّنوا فيها مجموعة من المنازل، مع تعبيد طرق داخلية وتمديد خدمات الكهرباء والماء والبنية التحتية. وعلى خلفية التطوّرات الأخيرة، أعلن وزير خارجية العدو، يائير لابيد، أن الجيش الإسرائيلي قرّر إخلاء البؤرة الاستيطانية، مشدّداً على ضرورة تنفيذ هذا الأمر من دون أيّ اعتبارات داخلية تتعلّق بـ»الميل إلى اليمين أو اليسار». وعلى إثر ذلك، استهجن المستوطنون، في تعليقات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي، الإعلان، ووصفته مجموعات منهم بأنه «استسلام للعرب والإرهاب».
ولبلدة بيتا تحديداً تجربة تاريخية ومحطّات فارقة في التصدّي للمستوطنين والاستيطان، أشهرها حادثة وقعت إبّان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1988، وقُتلت فيها مستوطنة إسرائيلية واستشهد ثلاثة شبان. وبدأ الحدث آنذاك عندما هاجم مستوطنون جبلاً في أطراف البلدة للتنزّه، وحاصرهم مئات الفلسطينيين واقتادوهم إلى ساحة بلدة بيتا، قبل أن يتدخّل جيش العدو ويعتقل عشرات الفلسطينيين ويُبعد عدداً منهم خارج الوطن في أعقاب المواجهات العنيفة. ويُسجّل للبلدة عدم وجود أيّ مستوطنة على أراضيها بفعل شراسة المقاومة الجماهيرية. ويعوّل مراقبون وأهالي بلدة بيتا أنفسهم على الإرث التاريخي المقاوم للبلدة والتجارب المتكرّرة للمستوطنات الفاشلة، في أن يُفشلوا «أفيتار» مرّة أخرى ويهدموها، لتصبح أثراً بعد عين.