على أن المسيرة تحوّلت، هذا العام، إلى عامل إثارة ومحرّك لهَبّة مقدسية، بالتضافر مع جملة أسباب؛ من بينها مبالغة تل أبيب في محاولة تهويد مدينة القدس وطرد سكّانها الفلسطينيين منها، فضلاً عن تفاقم الاحتقان الفلسطيني جرّاء عمليات التطبيع العربية الأخيرة التي أضرّت بهوية المدينة لمصلحة الادّعاءات الإسرائيلية فيها. ومن هنا، جاءت قرارات تهجير أهالي حيّ الشيخ جراح المقدسي، وكذلك ناحية سلوان المحاذية للقدس، لتُحفّز الفلسطينيين على التعامل مع «مسيرة الأعلام»، هذه المرّة، بوصفها استكمالاً لإجراءات التهجير وللاستفزازات في الحرم القدسي. وقد أفلحت المواجهات الأخيرة في القدس في الدفع نحو تأجيل المسيرة مراراً، فيما فرضت الجولة العسكرية الأخيرة مع قطاع غزة واقعاً مغايراً تماماً، من شأنه أن يضغط على أيّ قرار إسرائيلي في كلّ ما يتعلّق بالمدينة، ومن بينه «مسيرة الأعلام».
وَلّدت المواجهة الأخيرة معادلة غير مسبوقة في الساحة الفلسطينية: إمكان تفعيل سلاح غزة ضدّ الاحتلال، بهدف حماية الحرم والقدس. وهي معادلة باتت حاضرة على طاولة القرار في تل أبيب قبل اتّخاذ أيّ قرار يمكن أن يستفزّ المقدسيين ويتسبّب بمواجهات، من شأنها بالتبعية تفعيل القاعدة الجديدة. على أن معضلة القرار في إسرائيل اليوم، هي أن الأخيرة معنيّة بالتأكيد أن معادلة «غزة ــــ القدس» لا تدفعها إلى الانكفاء عن خططها ومشاريعها في القدس، ومحتاجة في الوقت نفسه إلى أن لا تتسبّب بمواجهة مع القطاع. وعلى هذه الخلفية، جرى تأجيل المسيرة تباعاً، فيما كانت كلّ الأجهزة الأمنية واستخباراتها تطلب إلغاءها لا تأجيلها فقط. لكن الفعالية تحوّلت، أخيراً، إلى موضوع مناكفة ومزايدة داخلية إسرائيلية. وفي هذا الإطار، جاء قرار تأجيل المسيرة إلى اليوم، والذي صدر عن حكومة بنيامين نتنياهو قبل سقوطها بأيام، ليكون جزءاً من سلّة تحدّيات رُحّلت كلّها إلى الحكومة الجديدة، بهدف الإضرار بها.
ستكون الحكومة الجديدة أمام خيارَين اثنين: الإلغاء أو الإبقاء على المسيرة مع تحوير مسارها
على أيّ حال، ستظلّ معادلة «غزة ــــ القدس» حاضرة على طاولة القرار في تل أبيب، سواء أقرّت إسرائيل بها علناً أو أنكرتها. وهي معادلة لا تجبرها على اعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من عوامل التأثير على قراراتها في ما يتعلّق بالقدس فحسب، بل تُلزم أيضاً فصائل قطاع غزة، وتحديداً حركة «حماس»، بالحفاظ عليها؛ إذ إن تراجع الحركة عن التزاماتها بموجب المعادلة، ينهي عملياً أي مكسب، بالإمكان وصفه بالاستراتيجي، حصّلته الحركة كنتيجة للحرب، وخاصة أن هذه المعادلة هي التي رفعت «حماس» إلى دور تأثير إقليمي، كان حتى الأمس بعيداً عنها، بعدما حصرها الاحتلال طويلاً ضمن معادلة الهدوء واللاهدوء، مقابل الغذاء والعوائد الاقتصادية. المعنى هنا أن إسرائيل، المعنيّة بتسيير «مسيرة الأعلام»، تدرك أيضاً أن فصائل المقاومة معنيّة، بل ومُجبَرة، على أن تلتزم بموجبات معادلة «غزة ــــ القدس»، كي لا تُضيّع الحدّ الأدنى من إنجازاتها.
وظلّت إسرائيل، حتى إلى ما قبل الخميس الماضي، أي التوقيت السابق لـ»مسيرة الأعلام» قبل إعادة تأجيلها، تعمل على تسوية مع ذاتها، عبر قرار يقضي بالإبقاء على المسيرة ــــ لما لإلغائها من تداعيات سلبية على المصالح الإسرائيلية في أكثر من اتجاه ومستوى ــــ، وفي الوقت نفسه عدم استفزاز الفلسطينيين، وهو ما لا يزال العمل جارياً عليه، بشكل أو بآخر، إلى الآن. وكانت حكومة نتنياهو قد قرّرت تأجيل المسيرة إلى ما بعد نيل حكومة نفتالي بينت الثقة، في واحد من قراراتها الكيدية في السياسة الداخلية، وحتى تُجنّب نفسها اتخاذ قرار تَظهر فيه أنها متراجعة أمام معادلة «غزة ــــ القدس»، التي استقرّ التقدير لدى الأجهزة الأمنية على أنها ستُفعّل في حال لم تتراجع إسرائيل. وعلى هذه الخلفية، قرّر نتنياهو الامتناع عما كان سيقوم به، مُقرِّراً، وهنا وجه المكايدة، السماح للمسيرة ــــ بعد تأجيلها ــــ بأن تسلك مساراً استفزازياً يمرّ من الحيّ الإسلامي في البلدة القديمة وباب العمود في الحرم.
بناءً عليه، ستكون الحكومة الجديدة أمام خيارَين اثنين: الإلغاء أو الإبقاء على المسيرة مع تحوير مسارها. والقراران سيّئان: لإسرائيل الدولة التي اضطرّت إلى التراجع أمام المقدسيين وفي الخلفية أمام معادلة «غزة ــــ القدس»، وللحكومة الجديدة وصورتها أمام اليمين الإسرائيلي، الذي تحرص الحكومة السابقة على أن تُحرّضه ضدها. ومهما يكن قرار تل أبيب، فإن المقدسيين يحققون انتصاراً ثميناً من شأنه أن يؤسّس لانتصارات أخرى تحبط مشاريع العدو. ويكفي من صور هذا الانتصار إرباك الاحتلال والتشويش على قراراته، كما تمظهر في القرار حول «مسيرة الأعلام» التي اعتُقد أنها باتت من المسلّمات حتى في الوعي الجمعي للمقدسيين. والانتصار هنا ما كان ليتحقّق، أيضاً، من دون الموقف الحمائي لفصائل المقاومة وسلاحها في غزة.