إنْ كانت الحرب قد وضعت أوزارها، فإن ثمّة من يصرّ على نفض الغبار، لا غبار المعركة فحسب، بل ذلك الذي ذرّته إسرائيل في أعين الفلسطينيين لسنوات، وهي تحاول إقناعهم، بأدواتها المباشرة وغير المباشرة، باستحالة قدرتهم على التحرُّر من قبضتها. ولعلّ الجزئية الأهم في هذه "النفضة"، هي فعل التكامل بين مَن يحفر عميقاً تحت الأرض، ومَن يحفر عميقاً في وعي الجماهير فوقها. فبعدما عرّى نضال الأخيرة المنظومة الإسرائيلية وكشَف هشاشتها، يُصّر الشبّان الذين دافعوا بلحمهم الحيّ وصدّوا الهجمة الإسرائيلية عن مدنهم وقراهم، أن يواصلوا المسيرة النضالية، وأوّل عناوينها التحرُّر من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي. لم تكن المبادرة هذه المرّة مجرّد دعوة إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية، بل بتنظيم "أسبوع الاقتصاد الوطني"، تحت شعار "اشترِ من بلد، ونفّع (فد) أهل بلدك". وهي مبادرة شبابية بدأت مطلع هذا الأسبوع، وتأتي بعد مضيّ أقلّ من شهر على التصدّي لهجمة وحشية شنّتها إسرائيل على الفلسطينيين كلّهم من البحر إلى النهر. الهجمة التي بدأت من حيّ الشيخ جراح وسلوان وباب العمود وضدّ المصلين في المسجد الأقصى، قبل أن تنتقل إلى بقية المدن والقرى في كلّ فلسطين الانتدابية، وتنضمّ غزة لتثبيت معادلات ردع جديدة، أعادت طرح أسئلة حول الروايات البائسة، وفي مقدِّمها وهْمُ "الخصوصية والواقعية" بالنسبة إلى فلسطينيي الـ48 على وجه الخصوص. وهي، للمناسبة، روايات عملت "قيادات الكنيست" على ترسيخها على مدى عقود.
فتحت اللحظة التي "اكتشف" فيها الفلسطينيون قدرتهم الهائلة على تمزيق وهْم الاستحالة، الباب على مجموعة من الحقائق القائمة خارج الدائرة التي أرادت إسرائيل محاصرتهم في داخلها. فَمَن ثار فعلاً في الشارع هم الناس المسحوقون، ضحايا سنوات من تغوّل الجريمة والعنف على أيدي التنظيمات العائلية المافيوية المدعومة من النظام الأمني الإسرائيلي، الناس المهمّشون الذين كانوا يتألّمون من دون أن يفهموا مِن أين ينبع ألمهم فعلياً. هؤلاء الذين فهموا أخيراً مَن يتسبّب لهم في كلّ هذا البؤس والوجع والإفقار: إنها عجلة إسرائيل التي تطحن أجسادهم يومياً.
من هنا، جاءت مبادرة "أسبوع الاقتصاد الوطني"، مطلقةً بيانها الأوّل لتقول لجموع الفلسطينيين: "نجحنا في شهر أيار في أن نقف معاً كشعب فلسطيني واحد في التصدّي بشجاعة للعدوان الذي صبّته إسرائيل علينا، والآن علينا أن نقف معاً كشعب واحد حتى نبدأ بترميم وتعزيز مجتمعنا... نلتزم جميعاً بأن نشتري من بلدنا الذي نُحبّ، ونفضّل المنتوجات الوطنية التي نصنع، ونتبرّع لمؤسسات تزرع الخير في قرانا ومدننا". لاقت المبادرة، التي انطلقت من على منصّات وسائل التواصل الاجتماعي، تجاوباً غير مسبوق، ليس في اندفاع المستهلكين الفلسطينيين لتنفيع المصالح الاقتصادية الفلسطينية الصغيرة التي همّشها نظام السوق الإسرائيلية فحسب، بل تجاوباً مع مفهوم المبادرة نفسها والمدفوعة بإدراك مسبق أن في الإمكان إحداث تأثير هائل عندما يتّحد الفلسطينيون اقتصادياً أيضاً، ويتوقّفون عن تغذية الاقتصاد الإسرائيلي الذي يجعل كيان الاحتلال يزدهر ويعمّر على ركام أجسادهم.
وللوقوف على خلفيات المبادرة، تحدّثت "الأخبار" إلى القائمين على صفحة "أسبوع الاقتصاد الوطني" على موقع "فيسبوك". بحسب هؤلاء، فإن "الأسبوع" يُعدُّ " خطوة أولى في سبيل توحيد القوّة الاقتصادية الفلسطينية بعدما توحّدت جهود نضالية مهمّة خلال الهبّة الأخيرة، وكسرت معازل وتقسيمات الاستعمار الجغرافية والاجتماعية". أمّا الهدف من المبادرة فهو "إعادة بناء الروابط الاجتماعية - الاقتصادية بين أبناء شعبنا، وتعزيز قدراته على الصمود والتماسك". الحملة، إذاً، كما يقول هؤلاء، جاءت "مكمِّلة للجهود التي بُذلت سابقاً، أي نقل مبدأ الوحدة الفلسطينية من مستوى التصدّي والنضال السياسي في مواجهة العدوان، إلى مستوى البناء الاجتماعي"، إذ "تعمل إسرائيل على ضرب نضالنا بالقمع والعنف الوحشيَّيْن من جهة، واختراق وتشويه وتدمير مجتمعنا من الداخل من جهةٍ أخرى. في شهر أيار قاومنا القمع والعنف، واليوم نخطو نحو مجتمع متماسك يقاوم تشويهه". ويبدى الناس تجاوباً "ممتازاً" مع الحملة، وفق القائمين عليها، الذين أشاروا إلى أن "الفعاليات المتنوّعة كانت تُنظَّم بسرعة البرق، إذ شاركت المحال التجارية بالمئات، فيما نظّمت القرى والمدن أسواقاً شعبية وأنشطة اجتماعية لتشجيع الاقتصاد". وتكمن أهمية "الأسبوع في تعريفه لوحدة القوة الاقتصادية الفلسطينية"؛ فهذه هي "المرّة الأولى، منذ النكبة، التي يتحرّك فيها الشعب الفلسطيني اقتصادياً بشكل مشترك. هذا الهدف الأهمّ. من جهة أخرى، نحن ندعم أبناء شعبنا ومنتجنا الوطني، ونحثّ الناس على التخلّص من السلع الإسرائيلية، وإنعاش المصالح والمحال المحلية وتدعيمها في مواجهة الضغوط الإسرائيلية"، على حدّ تعبيرهم.
وعلى رغم أنه لا توجد، حتى الآن، معطيات تتعلّق بالسوق الإسرائيلية، ولكن "من الواضح أن شريحة أوسع من الجمهور الفلسطيني باتت ترفض استهلاك المنتجات الإسرائيلية". وردّاً على سؤال "الأخبار" بشأن إذا ما كان هناك مخطَّط لتمديد فعاليات "الأسبوع"، أجاب القائمون: "لا تمديد للمبادرة، ولكن هنالك أساليب وطرق كثيرة لاستمرار النضال بهذه الاتجاهات المهمّة. يُمكن طبعاً تغيير السلوك الاستهلاكي، ولكنها طريق طويلة، وتحتاج إلى بناء مؤسّساتي فاعل على مدار العام. أسبوع الاقتصاد الوطني هدفه أن يبدأ بتنشيط الحركة وحثّها، على أمل أن تستمرّ جهات فلسطينية مختلفة بدفع المبادرة إلى الأمام". لكن من خلال متابعة الصفحة، يُلاحظ أنه حتى المنتجات الوطنية التي تروّج لها الحملة، تحمل أسماء عبرية، والسبب، بحسب القائمين، أن "القوانين الإسرائيلية تفرض على جميع المنتجات المصنوعة داخل أراضي الـ48، أو المؤسسات التي تريد بيع منتجاتها داخل هذه المنطقة، أن تُكتب اللغة العبرية على الرزم؛ حيث تتحكّم إسرائيل في الحواجز وحركة التصدير والاستيراد، ولذلك تشترط حركة البضائع وإمكانية تسويقها بوجود كتابة عبرية".
تنقل المبادرة مبدأ الوحدة الفلسطينية من مستوى التصدي والنضال السياسي، إلى مستوى البناء الاجتماعي


لا تنشر الصفحة مواقع فعاليات "الأسبوع" فحسب، ولا بيانات عن المحال التجارية المشاركة فقط، بل مقاطع توعوية حول الشركات الإسرائيلية الكبرى، ومن بينها، مثلاً، ما نشرته حول شركة "تنوفا" التي تأسّست عام 1926 مع الهجرة الصهيونية الثالثة إلى فلسطين. وتُعدُّ اليوم من أكبر شركات منتجات الألبان في إسرائيل، حيث أقامت 36 مصنعاً على الأراضي الفلسطينية المسروقة، فيما يصل دخلها السنوي إلى 7 مليارات شيكل. والأهمّ أن هذه الشركة، بحسب المنشور، تبنّت وتكفّلت بمدّ جيش الاحتلال بجميع منتجات الحليب والألبان، وتبرّعت لبناء وتطوير مراكز تدريب عسكرية، ودعمت تطوير وحدات قتالية ووحدات النخبة الجوية والبحرية، وذلك ضمن ما تسمّيه "مسؤولية اجتماعية". في المنشور التوعوي حول "تنوفا"، يختم القائمون على الصفحة بسؤال: "حليب تنوفا يُكبّر جيش الاحتلال، فماذا عن مسؤوليتنا المجتمعية تجاه فلسطين وأهلها، خاصة في ظلّ توفُّر البديل الوطني للألبان والحليب بكثرة؟".
هي إذاً مبادرة تكشف عن وعي بحقيقة الصراع القائم في فلسطين، وتأتي لفكّ القبضة التي تفرض أن يكون مأكل الفلسطينيين وملبسهم مربوطين بالاقتصاد الإسرائيلي. يقول هؤلاء الشباب: سنلبس ممَّا نصنع ونأكل ممَّا نزرع!



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا