لم يَعُد في مستطاع الحاج أبو محمد المصري تلبية طلبيات زبائنه التي اعتاد على حجزها قُبيل موسم قطاف العسل الربيعي. يقف الرجل على ما تبقَّى من منحلته ضارباً كفّاً بكف، تحيط به الحسرة على ضياع الموسم، فضلاً عن نفوق أكوام النحل في الخلايا التي خوَت من الحياة. «بقيتُ متفائلاً حتى انتهى العدوان، لكنه تفاؤل خادع»، يقول الحاج الذي تجاوز من عمره الستين عاماً. وخلال الأيّام الـ11 من عمر الحرب، بقي الرجل على اتصال دائم بجيران منحلته المقامة أقصى شرق بيت حانون، الذين طمأنوه إلى أن خلايا نحله الأربعين، لم تصب بأيّ أذى، بعدما أخطأتها قذائف المدفعية. لكن المصري يستدرك، قائلاً: «بعد انتهاء العدوان، كانت الصدمة بأن آلاف النحلات التي نجت من القذائف المباشرة، قتلها الغاز الذي استخدم على نحو كثيف». يكمل الرجل حديثه إلى «الأخبار» وهو يُخرِج بيديه أكواماً من النحل الميت: "لم نستبشر بناتج كبير خلال هذا الموسم. كان طموحنا أن يغطّي قطاف العسل التكاليف والأدوية التي يستهلكها النحل خلال دورة الإنتاج، لكن ما حدث فاق كل الخسائر التي يمكن تحمُّلها".

تتمثَّل المشكلة، كما يشرح المصري، في أن الإقدام على قطف العسل في ظرف كهذا، يعني الحكم بالإعدام على مَن نجا من النحل، خصوصاً وسط التناقص المضطرد في أعداد الملكات والنحل النشط. ومنحلة المصري ليست إلّا واحدة من المشاريع الصغيرة التي مُنيت بخسائر فادحة؛ ففي المنطقة الشرقية لمدينة خانيونس أقصى جنوب قطاع غزة، تفاجأ الدكتور محمود الشيخ علي بتكرُّر المشهد ذاته. فالرجل الذي يدير مجموعة «ابن النفيس» الطبية، يؤكد أن منحلته تعرّضت لمجزرة حقيقية. ويوضح، في حديث إلى «الأخبار»: «المنحل تم إنشاؤه ليمثّل مشروعاً وطنياً ينتج العسل الطبيعي، ويوظِّف عدداً لا بأس به من العمّال والمختصّين في مجال تربية النحل، خصوصاً في ظلّ الظروف الصعبة التي يعيشها العاملون في هذا المجال المهدَّد بالانقراض». ومن الجدير ذكره أن الشيخ علي أقام منحلته في منطقة خزاعة القريبة من الحدود الفاصلة مع الأراضي المحتلة عام 1948، بعد دراسة مستفيضة أجراها على المنطقة، التي تسمح للنحل بأن يتجاوز الحدود في اتجاه الأراضي المحتلة المزروعة بالأشجار المثمرة، لكي يستفيد من رحيقها، لا سيما في ظلّ افتقار القطاع للمساحات الزراعية التي يحتاجها النحل، وسط التمدُّد العمراني الأفقي.

ويقول مدير «ابن النفيس»: «لم نستطع خلال الحرب الوصول إلى المنحل، وفوجئنا لدى زيارتنا التفقدية بنفوق آلاف مألَّفه من النحل (...) تكلفة المشروع تجاوزت الـ20 ألف دولار، وخسائرنا بعد ضرب موسم القطاف الربيعي تضاعفت، إذ خسرنا مئات الكيلوغرامات من العسل الذي لن نستطيع الاستفادة منه، والتي تتجاوز قيمتها التجارية الـ15 ألف دولار». وتكمن المشكلة، كما يوضح الشيخ علي، في انعدام اليقين حول صلاحية العسل للاستهلاك الآدمي، خصوصاً في ظلّ التأثير المتزايد للغازات على خلايا النحل، فضلاً عن أن اتخاذ قرار بقطف العسل في ظرف كهذا، يعني الإجهاز الكامل على المشروع.
منذ انتهاء العدوان إلى اليوم، يستمرّ تأثير الغازات السامة مجهولة الصفة على النحل، ويتسبّب بشكل يومي بمقتل الآلاف


مشروع «ابن النفيس» الذي كان يطمح بأن يكون الأكبر في قطاع غزة، كان يحتوى على 120 صندوقاً، تبقّى منها 70 فقط، غير أن الشيخ علي نوّه إلى مشكلة أكبر من الخسائر المادية، موضحاً أنه، ومنذ انتهاء العدوان إلى اليوم، يستمرّ تأثير الغازات السامة مجهولة الصفة على النحل، ويتسبّب بشكل يومي بمقتل الآلاف، ما يعني أن لهذه الغازات آثار وخصائص ذات تأثير غير لحظي، يستمر في ما بعد استخدامها لأسابيع وربّما لأشهر. ويشرح الطبيب الشاب: «الخطر يتمثّل في أنه لا يوجد تشخيص دقيق لطبيعة الغازات المستخدَمة، ولا حتى لمدى تأثيرها وأعراضها الجانبية التي قد تتركها على المواطنين الذين تعرّضوا لها بشكل كبير».


وكانت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة قد كشفت أخيراً، أن التحقيقات التي أجراها الطبّ الشرعي على جثامين عدد من الشهداء، أظهرت أن سبب الوفاة المباشر هو «الاختناق بالغازات السامة»، إذ وصلت إلى المستشفيات جثامين لعدد من الشهداء الذين لم يصابوا بشظية واحدة، ولم يظهر على أجسادهم أيّ إصابات تسببت في جروح ودماء. وأكدت عدة شهادات لمواطنين تعرّضت منازلهم أو المنطقة التي يسكنونها لقصف من طائرات الاحتلال، أنهم استنشقوا روائح غريبة، تسبّبت لهم بأعراض الاختناق وضيق الصدر الحادّ. ووفقاً لشهادة مدير قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى الشفاء في غزة، هاني الهيثم، فإن الطواقم الطبية تعاملت مع عدد كبير من المصابين الذين لم تتبدّ على أجسادهم أيّ جروح أو دماء، وكانوا يعانون من مشاكل في التنفس تسبّبت بالاختناق. وتستخدم إسرائيل مجموعة من الغازات المحرَّمة دولياً والتي وثّقها تقرير «لجنة غولدستون» في أعقاب حرب عام 2014، من بينها غاز الفسفور الأبيض، الذي يتفاعل مع الهواء ويتسبّب في دخان كثيف يؤدّى إلى الحروق والاختناق. كما أكد المحامي عبد الله شرشرة، في تصريحات صحافية، أن هناك عدة أنواع من الغازات التي تستخدمها إسرائيل على نحو تقليدي، لكن ما هو جديد في هذه الحرب، هو نوعية الغازات المجهولة التي تُسبِّب الوفاة، وأعراض الاختناق. وأشار شرشرة إلى أن جيش الاحتلال كثّف إطلاق الغازات والقذائف، على المناطق الشرقية في غزة، لإجبار الأهالي على النزوح عنها وخلْق ضغوط كبيرة على البنية التحتية وتركيز الكثافة السكنية في نطاق جغرافي ضيّق للضغط على السلطات المحلية، في المدن والبلدات.