غزة | كانت المرّة الأولى التي يؤمن فيها الصحافي مصطفى حسونة بفعالية أدوات السلامة التي يرتديها خلال التغطية الميدانية، بعدما حمته من موت محقَّق. فحسونة واثنان من زملائه كانوا يرتدون دروعاً وخوذاً واقية من الرصاص قبل أن يصيب صاروخ من طائرة مسيّرة مؤخرة السيارة التي كانوا يستقلّونها خلال تغطيتهم العدوان الإسرائيلي في مدينة بيت حانون أقصى شمالي قطاع غزة. يقول حسونة: «تجارب الزملاء الذين قضوا خلال أداء مهماتهم بعد إصابتهم المباشرة بصاروخ إسرائيلي أو برصاص معدني، مثل فضل شناعة وياسر مرتجى وأحمد أبو حسين، أورثت الجميع شعوراً بأن وسائل الحماية ليست سوى كراكتر مفروض على الصحافي الظهور به ليتناسب مع ظروف الميدان»، مستدركاً: «هذه المرّة تناثرت حولنا الشظايا وأصابتنا بشكل طفيف، ومن حسن حظنا أننا كُنّا نرتدي ما صدّ عنا القدر الأكبر من الشظايا». [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
بالنسبة إلى سامي أبو سالم، وهو صحافي ومدرّب معتمَد للسلامة المهنية أثناء الحروب لدى «الاتحاد الدولي للصحافيين»، من المهمّ أن تتوفّر لدى كلّ صحافي ميداني أدوات السلامة، لكن الأزمة، كما يوضح أبو سالم، تكمن في محدودية تلك الوسائل في غزة، لأن إسرائيل تمنع دخولها. والموجود محدود في السوق المحلية، وبأسعار تتجاوز خمسة آلاف دولار للدرع الذي سعره الأصلي لا يتجاوز الألفين. لذا، يلجأ ما نسبته 70% من صحافيّي القطاع إلى حياكة سترات واقية ممهورة بشارة الصحافة من القماش، ولا تحتوي داخلها على المعدن أو الألياف التي تقي من الرصاص والشظايا!
وتسبّب العدوان الأخير بإصابة قرابة 70 صحافياً بجروح متفاوتة، فضلاً عن استشهاد صحافي واحد هو يوسف أبو حسين، الذي اغتاله العدو على نحو مباشر وهو داخل منزله عقب عودته من عمله في «إذاعة صوت الأقصى» المحلية. غير أن التحدّيات التي واجهها الصحافيون في الميدان خلال 11 يوماً لا تنحصر في أدوات الحماية، بل تمتدّ إلى تدمير الطائرات الحربية الأبراج التي تحوي مكاتبهم وتهديد أخرى بالقصف، وهو ما تسبّب في إخلاء وسائل الإعلام المحلية والدولية مقرّات عملها ولجوئها إلى الشارع أو المؤسّسات الصحية. ودمّر الاحتلال خلال العدوان 33 مكتباً واستوديو للفضائيات والمؤسّسات الدولية والمحلية، بينها مكتبا قناة «الجزيرة» ووكالة «أسوشيتد برس» وقناة «القدس اليوم» وصحيفة «فلسطين» و«إذاعة الأسرى».
تقول الصحافية يمنى السيد، وهي مراسلة قناة «الكويت» باللغة الإنكليزية وكانت تعمل من مكتب «أسوشيتد برس» في برج الجلاء المدمّر: «كنت في مكتبي في الطابق العاشر حين تلقّى مالك البرج اتصالاً لإخلائه خلال دقائق... أمسكت حقيبتي ونزلت عبر المصعد الذي كان يعجّ بالذين تزاحموا للهرب، وما هي إلا لحظات حتى أُطلق صاروخ من طائرات الاستطلاع». وتضيف السيد: «خلال اتصال ضابط المخابرات الإسرائيلي بصاحب البرج، طَلب منه الأخير أن يسمح للصحافيين بإخراج معدّاتهم وكاميراتهم، لكن ردّه كان أن قصف البرج سيكون أمام أعينهم سريعاً».
«الجلاء» الذي يقع بالقرب من مفترق السرايا، وسط مدينة غزة، كان واحداً من مجموعة أبراج جرى تدميرها على نحو كلّي، وهو ما دفع الأطقم الصحافية إلى ابتكار أساليب ميدانية للخروج بالبرامج المباشرة والحلقات الحوارية، أساسها الارتجال وابتداع الديكور في الميدان. يشرح عامر خليل، وهو مدير فضائية «فلسطين اليوم»: «طاقم القناة المكوّن من أكثر من 70 شخصاً ما بين صحافيين وفنّيين ومصوّرين اضطر إلى نقل معدّاته إلى باحة مستشفى الشفاء، بعدما صار تدمير المكاتب الصحافية نهجاً لدى العدو». يكمل خليل حديثه من داخل خيمة ضيّقة ازدحمت بالعشرات من الصحافيين ومعدّات البث: «تسبّب هذا بعبء لوجستي، مثل صعوبة توفير أماكن للنوم، وهو ما اضطر الزملاء إلى النوم في العراء، فضلاً عن عوائق أخرى تتعلّق بالكهرباء والإنترنت».
المشكلة الأكبر التي كان عليهم تداركها هي توفير «لوكيشن» خاص بالبرامج المباشرة، فلجأ مهندسو الديكور إلى صناعة حيّز مكاني داخل المستشفى على نحو ارتجالي على رغم فقدان الخصوصية. يستذكر ماهر العفيفي، وهو مخرج برامج تلفزيونية مباشرة، موقفاً كان مؤلماً، لكن منسجماً مع بيئة الحرب والمستشفى، ففي إحدى الحلقات المباشرة التي كان يستضيف فيها المذيع شخصيات سياسية، وصلت سيارات الإسعاف إلى قسم الاستقبال والطوارئ، وبعد لحظات دخل في الخلفية المنقولة مباشرة عبر الأقمار الاصنطاعية مشهد لوالد طفل يحمل ابنه الشهيد وهو يصرخ مقابل الكاميرا، وبعدها بلحظات، عبَر شخصان من الطواقم الطبية يحملان جثماناً آخر لشهيد من أمام الضيوف!
في هذا السياق، يقول أحمد حرب، وهو مدير قناة محلية دمّرت الطائرات الإسرائيلية الاستوديوات الخاصة بها بعد قصف برج الجوهرة القريب من «الجلاء»، إن وجود فارق زمني بين إطلاق صاروخ الاستطلاع وبين صواريخ الطائرات الحربية أعطى مجالاً «لمخاطرة الزملاء بأنفسهم ودخولهم إلى مكاتبهم وإخراج قدر جيّد من المعدّات مثل الكاميرات وأجهزة البثّ والإضاءة». ثمّ لجأ الطاقمان الصحافي والفني إلى المكوث في شقة لأحد الأصدقاء وتحويل غرف نومها وصالوناتها إلى استوديوات عمل، مع تعديل الخطّة البرامجية لتتناسب مع البث من البيت!


جبهة ثانية على «السوشال ميديا»
معركة أخرى شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي خلال العدوان. ففي ظلّ التفاعل الكبير الذي أبداه الجمهور العربي مع قصص الحرب وصورها، عملت منصّات مثل «فايسبوك» و«واتسآب» و«إنستغرام» على محاربة المحتوى الفلسطيني مقابل تظهير الصورة الإسرائيلية. فتعرّضت الآلاف من حسابات الزملاء المؤثّرين للإغلاق وتقييد النشر، فضلاً عن حظر حسابات الصحافيين الفعّالين في «واتسآب».
يقول الصحافي الميداني، حسن إصليح، إنه مع مواكبة الأحداث، تعرّض حسابه في «فايسبوك» الذي يتابعه أكثر من 100 ألف شخص، للإغلاق للمرّة الـ15، فيما يشير تقرير مهني صدر عن «حملة تطوير الإعلام الاجتماعي» إلى تلقّيه 500 بلاغ لانتهاك الحقوق الرقمية في فلسطين ما بين 6 ــ 11 الجاري. وأوضح التقرير أن 50% من الانتهاكات كانت من «إنستغرام» فيما كانت حصة «فايسبوك» 35%.
تعقيباً على ذلك، قال وزير الاتصالات الفلسطيني، إسحاق سدر، إن الحكومة «بذلت جهوداً مع إدارة فايسبوك لوقف الهجوم على المحتوى الفلسطيني، لأنه ليس من حق أيّ شركة عامة أن تتبنى الرواية الإسرائيلية». وأشار سدر إلى أن «4.5 مليارات شخص حول العالم ساهموا في دعم وسم الحرية لفلسطين خلال عدوان الاحتلال».