البيرة | يُعدّ «إضراب فلسطين» العامّ الذي نُفّذ أمس حدثاً تاريخياً، لم تشهده فلسطين منذ الإضراب الكبير في الثورة الكبرى عام 1936، لعوامل أبرزها سخونة المشهد الميداني، ونضوج الظروف في ظلّ توسّع دائرة الاشتباك مع العدو على كلّ الجبهات، إضافة إلى الإجماع الفصائلي والشعبي وحتى الرسمي على إنجاحه والانخراط في فعالياته. وامتاز هذا الإضراب بالالتزام الذاتي الشعبي، من دون الحاجة إلى ضغوط أو دعوات. ففي إضرابات الانتفاضة الأولى، كانت قوات مسلحة بالسلاح الأبيض أو المسدّسات تجوب القرى والمدن في الضفة، لفرض إغلاق المحال التجارية ومنع العمال من التوجّه إلى أراضي الـ48، لكن أمس كانت نسبة الالتزام كبيرة، بل فاقت التوقّعات.بهذا الإضراب الشامل والواسع، الذي أعاد مشاهد الانتفاضتَين الأولى والثانية، حطّم الفلسطينيون معادلة «لقمة العيش» التي يبتزّهم بها العدو منذ احتلاله فلسطين، وانحازوا «بكلّ شموخ وانتماء»، كما كانوا يقولون أمس، إلى دماء الشهداء وعذابات الشعب في غزة وباقي فلسطين. أكثر من ذلك، ليس من المبالغة القول إن إسرائيل هُزمت بالإضراب؛ فعلى رغم تهديداتها وانتهاجها سياسة «كيّ الوعي» المستمرة، وسيطرتها الكاملة على مفاصل حياة الفلسطينيين في كلّ المناطق، لم تفلح أمس في ثني غالبية العمّال عن المضيّ في الإضراب.
وعبّر الفلسطينيون عن فرحة كبيرة بنجاح الإضراب بهذه الشمولية وهذا الالتزام الكبير، غير المسبوقَين منذ انتهاء الانتفاضة الأولى على أقلّ تقدير، وهو ما سيمهّد لسلسلة إضرابات لاحقة قد تكون أوسع، علماً أنه سبقت ذلك دعوات متكررة إلى الإضراب خلال الحروب على غزة وغيرها من الأحداث الدامية، لكنها لم تنجح إلّا نسبياً. فمثلاً، عند ارتقاء شهداء في بلدة ما، يصير الإضراب تلقائياً عادة احتراماً لدم الشهداء وحداداً عليهم ولضمان أوسع مشاركة في تشييعهم، لكن ما لم تشهده فلسطين منذ الانتفاضة الأولى هو المشاركة الكبيرة على امتداد مساحتها، بما شمل القدس نفسها.
يمهّد هذا الإضراب لسلسلة إضرابات أخرى قد تتوسّع وتطول


في الإضرابات السابقة، كان كثير من الفلسطينيين يرون أنها لتعطيل الحياة، وآخرون يعتبرونها أشبه بـ«إجازة مفاجئة» لممارسة بعض الأنشطة. لكن هذه المرّة مختلفة، إذ لم تقتصر فعاليات أمس على الإغلاق الشامل، بل امتدّت إلى الاشتباك مع العدو على مئات نقاط التماس في الضفة والقدس والداخل، بل حتى إن بعض المخيمّات والمناطق خارج فلسطين شملها الإضراب، فضلاً عن مئات المسيرات التي خرجت في كلّ قرية ومدينة، بالتوازي مع انطلاق عشرات التظاهرات في دول عربية وإسلامية وعالمية ساندت الإضراب ولو رمزياً.
العلامات الفارقة في يوم الإضراب كثيرة، ولا تقتصر على عدد نقاط الاشتباك فحسب، بل تطوّرت ووصلت إلى اشتباك مسلح عنيف أصاب ضابطة ومجنّداً من جيش العدو عند المدخل الشمالي لمدينة البيرة، سبقته بساعات في الخليل محاولة الأسير المحرّر إسلام زاهدة تنفيذ عملية مركّبة، حيث أطلق عليه العدو النار أثناء محاولة إلقائه قنبلة محلية الصنع صوب حاجز لجيش الاحتلال، وعُثر بجانبه على بندقية وسكيناً. والشهيد زاهدة ينتمي إلى حركة «الجهاد الإسلامي»، وهو من مواليد العام 1989، واعتُقل عدّة مرات لدى العدو.
نجاح الإضراب الباهر أعاد ثقة الفلسطينيين بأنفسهم، وإيمانهم بقدرتهم على امتلاك المبادرة وعدم انتظار أيّ جهة لمواجهة العدو، فضلاً عن كون الإضراب محطّة مفصلية، ومن المتوقع أن يصبح سلاحاً استراتيجياً بأيديهم. ومع استمرار العدوان، تظلّ الأوضاع الميدانية مرشحة للتصعيد أكثر في الضفة والقدس والداخل، إذا لم يوقف العدو حربه على غزة ويلتزم بتهدئة ترضي شروط فصائل المقاومة، مع أن أيّ تطور مفاجئ أو جريمة جديدة قد ينفذها العدو من الممكن أن تزيد في تسعير نيران المواجهة.
وما يفاقم الاحتقان في الضفة هو الارتقاء المستمرّ للشهداء، إذ قضى أمس في رام الله ثلاثة شهداء خلال تظاهرات ضخمة شهدتها المدينة، هم أدهم كاشف (20 عاماً)، ومحمد إسحاق حميد (25 عاماً)، وإسلام برناط، وتخلّلها إطلاق نار باتجاه الجيش الاسرائيلي، ما أدّى إلى إصابة جنديَين بجروح، علماً أن الشهيد رابع ارتقى في مدينة الخليل (جنوب) قرب حاجز عسكري حين كان يحاول تنفيذ عملية. كما أصيب أكثر من 60 فلسطينياً بجروح خلال المواجهات العنيفة شمال رام الله بالقرب من مكتب الإدارة المدنية في مستوطنة «بيت إيل».
وبشأن إطلاق النار على الجنود، تؤكد مصادر لـ«الأخبار» أن مسلحين من «فتح» هم الذين يقفون خلف العملية خلال المواجهات قرب مدخل البيرة. وتُظهر مقاطع الفيديو هرب جنود العدو لحظة إطلاق النار من المقاومين، وسط فرحة عارمة وتكبيرات المتظاهرين. وبعد هرب الجنود، هرع شبان لإحراق خيمة في المكان كانت تُستعمل كثكنة ونقطة تمركز للعدو، فيما تُوثق المقاطع نقل جيش العدو اثنين من جرحاه. وتلا أحد الملثمين بياناً قال فيه إن «كتائب الأقصى»، الجناح العسكري لـ«فتح»، أعلنت تفعيل نفسها، علماً بأن نشاط الكتائب تَوقّف في 2005 وتمّ توزيع كوادرها على الأجهزة الأمنية الفلسطينية.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا