رام الله | تواصل كرة النار التدحرج على امتداد فلسطين المحتلّة في أعنف هبّة جماهيرية منذ انتهاء الانتفاضة الثانية عام 2005. مئات نقاط المواجهات الشعبية مع جيش العدوّ في الضفة والقدس مشتعلة، وعمليات إطلاق متتالية صوب أهداف لجيش الاحتلال في الضفة، والمقاومة في غزّة تواصل الالتحام مع بقية أرجاء فلسطين بصواريخها وطائراتها المسيّرة. ورغم مساعي السلطة الفلسطينية إلى خفض وتيرة التوتُّر، فإن للميدان الملتهب كلمة أخرى. فمنذ بداية التصعيد في السابع من الشهر الجاري، أكدت وزارة الصحة الفلسطينية في إحصائية لها ظهر أمس، ارتقاء 21 شهيداً في الضفة، وإصابة 4363 في القدس والضفة. ويتّضح من الإحصاءات اليومية والدورية والمتابَعة الميدانية أن جيش العدوّ تلقّى أوامر رسمية بإطلاق الرصاص الحيّ نحو الجزء العلوي من الجسم مباشرة، وهو ما يفسّر هذا العدد الكبير من الإصابات للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة في الضفة تحديداً.
بخلاف ما توقّعه مراقبون وهو أن العدوّ سيحاول الابتعاد عن تفجير الوضع في الضفة، يتّضح وجود قرار بقمع التظاهرات والشبّان بقسوة، في مسعى إلى إخماد كرة النار المتدحرجة، على قاعدة المستوطنين التي تقول: «الفلسطيني الذي لا يخضع بالقوّة، يخضع بمزيد من القوّة». لكن المشهد الميداني يشي بأن القمع كلّما اشتّد، اشتدّت معه المواجهات وتوسّعت رقعتها واستمرت. وفق إحصائية وصلت إلى «الأخبار»، استهدفت 17 عملية إطلاق نار على الأقلّ أهدافاً لجيش العدوّ منذ بداية التصعيد الإسرائيلي على غزّة، غالبيتها تركَّزت في محافظة جنين، لكنّها امتدّت إلى مناطق جديدة للمرّة الأولى مِن مِثل بوابة قرية حبلة جنوب قلقيلية، وحاجز «جبارة» في طولكرم.
يبدو جلياً أن الضفة ستشهد مزيداً من الاشتباكات المسلّحة وعمليات إطلاق النار لو استمرّ مشهد الهبّة كما هو عليه، بالتوازي مع خروج مسلّحين من «كتائب شهداء الأقصى» ببيانات في مدن رئيسيّة مثل نابلس وجنين، وتهديدهم العدوّ تحت شعار «المدينة منذ الآن محرَّمة عليكم». وعلمت "الأخبار" بأن مسلّحين من «سرايا القدس» في جنين خرجوا ببيانات خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، متوعّدين العدوّ ومستوطنيه. وقالت السرايا: «نقول للشباب الذين يمتلكون السلاح في الضفة، لا تطلقوا الرصاص في الهواء لأن هذا السلاح أمانة في أعناقكم». ويُلاحَظ أن كل الاستعراضات التي خرجت أخيراً في الضفة لم تشهد إطلاق رصاصة واحدة في الهواء، على عكس العادة، كما لم يقتحم جيش العدوّ نهائياً مدينتَي نابلس وجنين منذ خروج المسلّحين وتهديدهم قبل يومين، رغم استمرار المواجهات على نقاط التماس في غالبية المحافظات.
يبدو جليّاً أن الضفّة ستشهد مزيداً من الاشتباكات وإطلاق النار


وشهد يوم الجمعة الماضي أعنف المواجهات ليس منذ بداية التصعيد والهبّة الجارية فحسب، بل منذ نحو 18 عاماً، إذ تم تسجيل أكثر من 150 نقطة مواجهة على امتداد فلسطين التاريخية، حتى إن بعض الصحافيين يتندّرون على السؤال: «كم عدد نقاط المواجهة الجمعة»، ويقولون: "الأسهل إحصاء عدد المناطق التي لم تشهد مواجهات في كل فلسطين». وفيما لا تزال المواجهات مستمرّة يومياً في الضفة، تحدّث مصدر إلى «الأخبار» عن تشكيل لجان حراسة شعبية وتفعيلها في غالبية القرى والبلدات، وقد بدأت بالفعل التصدي لمحاولات اعتداءات مستوطنين وهجماتهم، مع نشاط مكثّف عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتنسيق جهود التصدّي للمستوطنين، وخاصّة في القرى القريبة من المستوطنات والمحاذية للشوارع الاستيطانية. وبينما أعلن العدوّ، مساء أوّل من أمس، استشهاد فلسطيني قرب مخيّم الفوار خلال محاولة تنفيذ عملية دهس، حدث أمس ما لم يكن متوقّعاً: عملية في قلب حيّ الشيخ جرّاح المهدَّد بالتهجير، حيث هاجم شاب بمركبته قوّة لشرطة العدوّ عند الحاجز المخصّص لحصار الحيّ، فأوقع سبع إصابات بين الشرطة قبل أن يرتقي شهيداً.
في غضون ذلك، أفاد مراسل القناة 12 العبرية المختصّ في الشأن الفلسطيني، أوهاد حمو، بأن رئيس السلطة، محمود عباس، اجتمع بقادة أجهزته الأمنية وأخبرهم: «لا أريد أن أرى حماس ترفع رأسها في الضفة، ولا أن تخرج الأمور عن السيطرة، والضفة هي القصّة الحقيقية». وتحاول السلطة فرض خطوط حمر على المواجهات، وخاصّة في بعض المناطق التي تعتبرها «حسّاسة»، مثل قبر يوسف شرق نابلس الذي يصل إليه المستوطنون لتأدية شعائر تلمودية، إذ ألقت دورية من أمن السلطة قنابل الغاز باتجاه مسيرة متوجّهة إلى القبر، علماً بأن للعدوّ تاريخاً مؤلماً مع قبر يوسف، إذ اندلعت فيه معركة خلال انتفاضة الأقصى أدّت إلى تحريره، ثم تعرّض لعمليات إطلاق نار متفرّقة حتى بعد نهاية الانتفاضة الثانية عام 2005.
في هذا الوقت، يبدو أن الهبّة الجماهيرية مرشّحة للاستمرار وللتصعيد، بعدما أصبحت نهايتها مقترنة بوقف المواجهة في عموم فلسطين، إذ أعادت المواجهة الجارية فرض خريطة فلسطين كاملة في المشهد السياسي كاملاً. فالحرب في غزّة متّصلة بالقدس خصوصاً وانتهاكات العدوّ فيها، وكذلك في الداخل المحتلّ عام 48، وفي الضفة يرتبط استمرار المواجهة بالدم النازف وارتقاء المزيد من الشهداء. وخلال هذه الانتفاضة، كسر آلاف الشبان حاجز الخوف وداسوا على هاجس الملاحقة الأمنية، لينتصر الفلسطيني الجديد على مخاوفه الداخلية وعلى مشروع «الفلسطيني الجديد» المصمَّم أميركياً منذ سنوات طويلة. كما أعادت الهبّة الجارية توجيه البوصلة نحو القدس، واستردّت ثقة الشعب بنفسه في كل مكان، رغم ارتقاء كوكبة كبيرة من الشهداء، وثبّتت أن فلسطين كلها تجلس على كمية ضخمة من «الديناميت» يمكن لأيّ فتيل أن يفجّرها في وجه العدوّ الإسرائيلي الآن ومستقبلاً.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا