بعد تسعة أيام فقط من الموافقة الطارئة على لقاح «فايزر-بايونتك» في الولايات المتحدة، بدأت السلطات الإسرائيلية حملات التلقيح بشكل مكثّف في العشرين من شهر كانون الأول الفائت. وسرعان ما استأنفت الدراسات العلمية الإسرائيلية البحث في مدى فعالية اللقاح على أرض الواقع، إلّا أن معظمها لم يخضع للتحكيم العلمي حتى الآن. دراسة واحدة تم نشرها في دورية «نيو إنغلاند» الطبية (NEJM) المرموقة في 24 شباط، تم خلالها تقييم فعالية اللقاح في 600 ألف ممن تلقوه مقارنةً بالعدد نفسه ممن لم يتلقوه خلال فترة الدراسة (أي حتى الأول من شباط). وقد تمّت موافقة المجموعتين في الخصائص السكانية، كالعمر والجنس والقطاع السكاني من عرب أو يهود أو يهود أرثوذوكس، وكذلك الخصائص الطبية كالحمل والحالات المزمنة. كما اعتمدت الدراسة خمسة أهداف لتقييم الفعالية (هي: الإصابة الموثقة بفيروس كورونا، وظهور العوارض، ونسبة الاستشفاء، ونسبة المرض الشديد، ونسبة الوفيات المنسوبة إليه). استنتجت الدراسة أن للقاح «فايزر-بايونتك» فعالية مرتفعة بعد 14 إلى 20 يوماً من أخذ الجرعة الأولى (46%، 57%، 74%، 62%، 72% تتابعاً) وفعالية أكبر بعد 7 أيام من الجرعة الثانية (92%، 94%، 87%، 92% تتابعاً – لا تقييم لنسبة الوفيات بعد الجرعة الثانية) (1).
ولكن، بغضّ النظر عما توحي به هذه الأرقام من حسم لفعالية اللقاح الأميركي-الألماني ضد فيروس «كورونا» المستجد، لا بد من ملاحظة حيثيات الدراسة أعلاه:

- بداية، خلافاً للدراسات السريرية التي نال بها اللقاح الموافقة للاستخدام الطارئ، لا تُعَدّ الدراسة الإسرائيلية تجربة عشوائية (randomized clinical trial) بل هي مبنيّة على المشاهدة (observational study). وإن هذا النوع من الدراسات لا يستطيع الجزم بعلاقة سببية بين المتغيرات والنتائج، بسبب تعذّر الفصل بين آثار العوامل المتعددة التي تكون دخيلة على تصميم الدراسة. على سبيل المثال، حذّر مقال في دورية الجمعية الأميركية الطبية (JAMA) من أن تتم المبالغة في تشخيص أعراض «كورونا» الشديدة في هذه الدراسات «لأن المصابين بالأمراض التنفسية المعهودة - كالإنفلونزا ونوبات الربو - قد تثبت إصابتهم بعوارض كورونا الطفيفة أو شفاؤهم منه ولكن مع تأخّر طرد الفيروس كلياً من أجسامهم، وقد تكون هذه الاحتمالات أكثر شيوعاً في ظل الانتشار المرتفع لفيروس كورونا» (٢). تداركت الدراسة دور العوامل الدخيلة عبر التشدد في شروط المطابقة بين من أخذ اللقاح ومن لم يأخذه، ولكن نتج عن هذا الفعل استبعاد حوالى 400 ألف ممن تلقى اللقاح خلال فترة الدراسة، أي حوالى ثلث المتأهلين ليكونوا في مجموعة اللقاح.
ثمانية من أصل عشرة مؤلفين تلقّوا منحاً بحثية مالية من شركة «فايزر» خلال 36 شهراً سبقت نشرها



- بالحديث عن الذين لم تشملهم الدراسة، تم أيضاً استبعاد المطبَّبين منزلياً أو القانطين في دور المسنين (حوالى 26 ألفاً) والعاملين في القطاع الصحي (حوالى 25 ألفاً) بسبب التفاوت الشاسع في تسجيل الأهداف المطلوبة ضمن هاتين الفئتين، ما يحدّ من قدرة الدراسة على اكتشاف الفروقات لتقييم فعالية اللقاح. وإن كان هذا الفعل مبرَّراً للدواعي الإحصائية إلا أنه يقلل تلقائياً من أهمّية الدراسة المزعومة، إذ شكّلت وفيات دور المسنين نسبة الثلث من الوفيات المنسوبة إلى «كورونا» في إسرائيل (إلى حين 12 تشرين الأول) (3)، كما أن الطواقم الطبية أكثر عرضةً بسبع مرات لظهور عوارض كورونا الشديدة من غيرهم من العاملين، بناءً على دراسة بريطانية لـ 120 ألف عامل (4). ثم إن 200 ألف آخرين تم استبعادهم نظراً لاحتكاكهم بالقطاع الصحي قبل ثلاثة أيام من تلقيهم اللقاح، أي لاحتمال ظهور العوارض عليهم قبل أن يأخذ اللقاح مفعوله. إذاً من أصل مليون ونصف ممن تلقى اللقاح حتى الأوّل من شباط، تعرّضت الدراسة لـ 770 ألفاً منهم، أي حوالى النصف فقط (51.2%)، فلا ندري إن كانت استنتاجاتها الحاسمة تنطبق لزوماً على النصف الآخر.

- الأهم أن تقييم الفعالية لا يُبنى على كلّ مَن في مجموعة اللقاح، فإن الإصابات الموثقة بـ«كورونا» سُجّلت لدى 10561 شخصاً فقط في مجموعتي اللقاح والضبط معاً، ما يعني أن خطر الإصابة المطلق قليل الحدوث حتى بدون أخذ اللقاح (1.02%). بناءً على ذلك، فالنسبة العالية للفعالية (92% بعد سبعة أيام من الجرعة الثانية) تعني في الحقيقة أن مجموعة اللقاح اشتملت على معدل 9 إصابات أقل من مجموعة الضبط (لكل ألف شخص). ويرجع هذا التدني العام في عدد الإصابات إلى مدة الدراسة القصيرة (42 يوماً) مع العلم بأنها وقعت في ظل الذروة الثالثة والأكبر لانتشار الفيروس. كما تجدر الإشارة إلى أن معيار قبول المشاركين في الدراسة استند إلى عدم تسجيلهم نتيجة إيجابية سابقة لفحص «PCR»، أي بافتراض ضمني أن السلطات الإسرائيلية استطاعت كشف كل الإصابات عبر هذا الفحص، وهو افتراض بعيد عن الواقع: تشير الدراسة نفسها إلى «غياب المنهجية في إجراء الفحوصات المنظمة لكشف المصابين بكورونا دون عوارض»، وقد ثبت أن هؤلاء يكتسبون مناعة طبيعية ذات فعالية (5). من المعقول إذاً أن نسبة من هؤلاء استطاعوا المشاركة في الدراسة بعد أن تعافوا من إصابتهم السابقة (التي لا يكشفها فحص «PCR»). وفي ظل نسبة الإصابات الضئيلة بين المشاركين في الدراسة، فإن وجود المتعافين من إصابتهم طبيعياً في مجموعة اللقاح أكثر من وجودهم في مجموعة الضبط قد يكون كفيلاً بتفسير فرق الإصابات بين المجموعتين، أي لتأثير المناعة الطبيعية على منع الإصابات المتكرّرة لا لعمل اللقاح ضرورة.

- يبقى أن نشير إلى وجود تضارب مصالح محتمل لدى من أجرى هذه الدراسة مع النتائج الإيجابية التي توصّلت إليها؛ إذ صرّح ثمانية من أصل عشرة مؤلفين عن تلقيهم منحاً بحثية مالية من شركة «فايزر» خارج إطار هذه الدراسة خلال 36 شهراً سبقت نشرها. وقد لا يُعد هذا التضارب غريباً، إذ أعطت الشركة الأميركية الأولوية في تقديم اللقاحات للسلطات الإسرائيلية لعلمها المسبق بتفرّد الأخيرة في حفظ سجلات مواطنيها الصحية إلكترونياً ولاعتمادها المركزية في إدارة حملة منظمة لتوزيع اللقاحات (6). وفي نهاية المطاف، فمن غير المحتمل أن السلطات الإسرائيلية أو «فايزر» كانت ستنتظر نتائج هذه الدراسة لتحدد خطوتها التالية في مسار التلقيح، خصوصاً أن نفوذ الشركة الأميركية المتزايد لا يسمح بذلك (اشترطت «فايزر» على حكومتي البرازيل والأرجنتين أن ترهن أصولاً سيادية لأي تكاليف قانونية قد تواجهها الشركة ضد القضايا المدنية، حتى في ما خص دعاوى الإهمال أو الاحتيال أو تعمّد الأذى) (7). في المقابل، يحتاج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى ورقة رابحة تضمن إعادة انتخابه نهاية هذا الشهر، وهي ما تمثّله صدارة السلطات الإسرائيلية بين سائر الدول بتوفير جرعة واحدة من اللقاح على الأقل لـ 60% من مواطنيها (حتى 12 آذار).

* طالب دكتوراه في علم الأحياء، الجامعة الأميركية في بيروت


المراجع:

1. BNT162b2 mRNA Covid-19 Vaccine in a Nationwide Mass Vaccination Setting | NEJM. https://www.nejm.org/doi/full/10.1056/NEJMoa2101765
2. Postlicensure Evaluation of COVID-19 Vaccines | JAMA. https://jamanetwork.com/journals/jama/fullarticle/2772136
3. Update on COVID-Related Mortality in Care Homes in Israel, 12th October 2020 | Long-Term Care Responses to COVID. https://ltccovid.org/2020/10/14/update-on-covid-related-mortality-in-care-homes-in-israel-12th-october-2020/
4. Healthcare Workers 7 times as Likely to Have Severe COVID-19 as Other Workers | BMJ Newsroom. https://www.bmj.com/company/newsroom/healthcare-workers-7-times-as-likely-to-have-severe-covid-19-as-other-workers
5. Robust T Cell Immunity in Convalescent Individuals with Asymptomatic or Mild COVID-19 | Cell. https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0092867420310084
6. The Secret Sauce Behind Israel’s Successful COVID-19 Vaccination Program | Brookings Institute Blog (Up Front). https://www.brookings.edu/blog/up-front/2021/01/05/the-secret-sauce-behind-israels-successful-covid-19-vaccination-program/
7. ‘Held to Ransom’: Pfizer Plays Hardball in Covid-19 Vaccine Negotiations with Latin American Countries | STAT. https://www.statnews.com/2021/02/23/pfizer-plays-hardball-in-covid19-vaccine-negotiations-in-latin-america/