رام الله | على رغم مرور شهرين على إطلاق سراحها، لا تزال الأسيرة المُحرَّرة، ميس أبو غوش، تعيش لهفة المشي في الشارع بحرّيتها. «مع أنني لم أقضِ في الأسر سوى ستة عشر شهراً، وهي مدّة قصيرة مقارنة بغيري، صرت أقدّر قيمة السير في الشارع والإحساس بضجّة الناس والحركة أكثر من قبل». تُطرِق ميس بصمت قبل أن تقول: «لا يمكن أن أنسى الأسيرات والأسرى الذين لم يروا شارعاً منذ سنين... لا يستطيع فهم ذلك إلّا من عاشه».من بين آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، تَذكر ميس، خاصة، الأسيرات الـ36 اللواتي لا يزلن يقبعن في «الدامون»، على سفوح الكرمل قرب حيفا. مكان تصفه الأسيرة المُحرَّرة، سماح جرادات، بدقة لافتة: «ما إن عبرْتُ مدخل الدامون، حتى وجدت نفسي في غابة من قضبان الحديد ذات اللون الأزرق الباهت والرمادي. قضبان من الحديد لا تنتهي وتتخلّلها بوابات الزنازين الفولاذية الصماء»، مستدركة: «حتى باحة السجن مغطّاة بشبك جديدي مزدوج، فلا نستطيع أن نرى السماء إلا مجزّأة، لنصف ساعة في اليوم فقط». هذا الحرمان كان ذا وقع خاص على أبو غوش، فتتذكَّر: «لم أتخيّل أنني سأقدّر يوماً قيمة القدرة على النظر إلى الشمس مباشرة بقدر ما أريد، وأن أفرح بذلك».
منذ 2018، شهدت ظروف اعتقال الأسيرات تدهوراً متواصلاً جرّاء سلسلة انتهاكات لإدارة السجون. وهي انتهاكات مستمرّة حتى اليوم، كما تؤكد المُحرَّرات، من السيّئ إلى الأسوأ. تقول جرادات: «عند وصولي إلى الزنازين، صُعقت بأن المساحة بكاملها مغطّاة بكاميرات المراقبة. في الغرف، وفي الباحة، وبين الزنازين»، فيما تضيف أبو غوش: «عدد كبير من الأسيرات هنّ محجبات، ولأنهن مراقَبات طوال الوقت لا يستطعن خلع الحجاب أبداً».
تطاول الانتهاكات في «الدامون» تفاصيل الحياة اليومية، إذ إن «الزنازين تمتلئ بالرطوبة، والطعام يصل إلى الأسيرات نيئاً في أحيان كثيرة»، تشرح سماح. هذه الظروف تفاقمت خلال جائحة كورونا، إذ بحسب ميس: «استغلّ الاحتلال الجائحة ليَمنع عنّا زيارات المحامين والاتصالات الهاتفية، كما ألغوا زيارات الأهل حتى هذه اللحظة. أيضاً، منعت إدارة السجن الكتب والصور، وهي المنفذ الوحيد للأسيرات، ولك أن تتخيّل أثر ذلك في معنوياتهن». وتكمل: «بعد ذلك منعونا من التنقّل بين الزنازين، فاضطررنا إلى البقاء لأسابيع متواصلة داخل الزنزانة نفسها، مع سبع أسيرات أو ثمانٍ في بضعة أمتار مربعة!».
قرّرت محكمة إسرائيلية قبل أشهر أنه لا داعي للتباعد الجسدي بين الأسرى!


تقول المؤسّسات المتابعة لشؤون الأسرى إن الاستثناء الوحيد الذي سمح به الاحتلال في منع الزيارات كان للأسيرات أمهات الأطفال. لكن هذا الاستثناء، كما تصف جرادات، هو «عقاب أكثر من كونه امتيازاً»، لأنه لا يسمح للأم بأن تتواصل مع طفلها إلا عشر دقائق، ثمّ يجري إبعادهما. «كنت أشاهد الأسيرة إيناس عصافرة، وهي والدة طفلين في الخامسة والثالثة، حينما تعود من كلّ زيارة، وبدلاً من إظهار السعادة للقائها ابنيها، كانت تعود حزينة لا تتحدّث مع أحد». كلّ ذلك يبرّره الاحتلال بـ«كورونا»، مع أنه يتعمّد الإهمال الصريح في تدابير الوقاية. «أحضَروا إلينا كمّامة واحدة لكلّ أسيرة، وعلينا أن نغسلها ونعيد استخدامها»، توضح أبو غوش، مضيفةً: «إذا ضاعت الكمّامة أو تلفت، لا يوفرون غيرها. كذلك توقفوا عن تعقيم الزنازين بعد أسبوعين فقط، وعادت أعداد السجانين إلى سابق عهدها، وبلا وقاية، مع أن حالات الإصابة في الكيان كانت في أوجها». إهمال تؤكّده جرادات أيضاً، قائلةً: «باستثناء علبة صابون واحدة ولفة ورق حمام واحدة في الأسبوع، علينا أن نشتري كلّ أدوات ومواد النظافة الخاصة بنا من مقصف السجن، بما تودعه عائلاتنا من نقود بأسمائنا... وأغطية النوم قديمة ومستهلكة ورائحتها قذرة».
في تموز/ يوليو الماضي، قرّرت محكمة إسرائيلية ألّا يجري تطبيق التباعد الجسدي على الأسرى، ما دفع «مؤسسة الضمير لرعاية الأسير» إلى التحذير من «كارثة» في صفوف الحركة الأسيرة. وفي نهاية 2020، كان عدد الإصابات بين الأسرى قد تجاوز المئة حسب «الهيئة الفلسطينية لشؤون الأسرى»، في الوقت الذي قرّر فيه الاحتلال ألّا يعطي اللقاح للأسرى والأسيرات إلا بموافقة حكومية.
تنظر أبو غوش إلى الشمس مرّة أخرى، كأنها تتأكّد من أنها لم تزل غير مجزّأة بشبك حديدي، وتقول: «ظروف الأسيرات اليوم تزداد قسوة، وهناك تقصير بحقهنّ من الرأي العام ووسائل الإعلام». قلقٌ تُقاسمها إيّاه جرادات، لافتةً إلى «(أنني) عندما خرجت من السجن تركت عائلة خلفي في ظروف بالغة القسوة. كلّ ما تمنّيته أن أستطيع أن آخذهنّ خارجاً معي».