رام الله | «كانت الساعة الثانية صباحاً عندما رنّ هاتفي في منزل أهلي في بيت صفافا بالقدس، حيث انتقلْتُ للسكن مع ابنتيّ منذ أن أبلغنا الاحتلال بأمر الهدم»، تستذكر بيان، زوجة الأسير وليد حناتشة، مجتهدةً في تمالك شهيق متقطع. «في الطرف الآخر صوتٌ يخبرني أن جيش الاحتلال اقتحم رام الله. ثوانٍ وأيقظْتُ ابنتي الكبرى، ثمّ جلسنا أمام التلفاز نتابع ما يحدث على قناة فلسطين التي كانت تنقل مباشرة ما يحدث أمام منزلنا في حيّ الطيرة».ما تسرده بيان حناتشة هو نموذج واحد من سياسة قمعية ورثها العدوّ الإسرائيلي عن الانتداب البريطاني، إذ يمارس منذ أيام الاحتلال الأولى ما يُعرف بالهدم العقابي لمنازل الأسرى والشهداء الفلسطينيين، مدّعياً أن ذلك إجراء لـ«ردع للمقاومة» وبيئتها الحاضنة. ومنذ 2015، عام «انتفاضة القدس»، حتى الشهر الجاري، هدَم الاحتلال 69 منزلاً لعائلات أسرى وشهداء، كما أقدم على صبّ خمسة بيوت أخرى من الداخل بالإسمنت حتى السقف، الأمر الذي خلّف أكثر من 320 فرداً من دون مأوى، بحسب إحصائية لمؤسسة «بتسيلم» الإسرائيلية. أمّا اللافت، فهو أن العدد الأكبر لعمليات الهدم طوال هذه السنوات الخمس كان في 2016.
في آذار/ مارس الماضي، أقدم الاحتلال على هدم منزلين في ليلة واحدة، واحد للأسير وليد حناتشة (51 عاماً)، والآخر ليزن مغامس (25 عاماً). حناتشة سُجن في أيلول/ سبتمبر 2019، ومغامس في الشهر الذي يليه، ضمن حملة طاولت عشرات في الضفة المحتلة عقب عملية استهدفت مستوطنين إسرائيليين غرب رام الله. ومع أنه رُوي الكثير حول تجربة الأسر، فإن سياسة «العقاب الجماعي» التي تطاول عائلات الأسرى وحتى أصدقاءهم ومحيطهم الاجتماعي لم تنل التغطية الكافية.

التحقيق العسكري
يفترش والدا يزن مغامس التراب تحت ظلّ زيتونة قرب ركام منزلهم المهدوم. «عندما اعتُقل يزن، لم نتوقّع أن الأمر سيصل إلى هذا الحدّ»، تقول أمّه سناء. «اعتُقل أكثر من مرّة على خلفية نشاطه في جامعة بيرزيت، واعتقدنا أن هذه المرّة مثل سابقاتها حتى عرفنا في الأيام اللاحقة أن يزن يخضع للتحقيق العسكري، وأن الأمر يتعلّق بعملية فدائية». هذا النوع من التحقيق ليس سوى تعذيب جسدي أشدّ قسوة من الذي يمارَس عند الاعتقال الاعتيادي. فمنذ 1999، منعت «المحكمة العليا الإسرائيلية» أنواعاً شديدة القسوة من التعذيب، وجعلت ممارستها منوطة بإذن منها للمُحقّق، لتصير إسرائيل بذلك المنظومة الوحيدة في العالم التي تسمح بالتعذيب بأمر قضائي بل تؤطّره قانونياً! ومنذ 1967، استشهد أكثر من 73 أسيراً في السجون وهم يخضعون لهذا التحقيق، وفق «مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان». وكانت «الضمير» قد كشفت في كانون الأول/ ديسمبر 2019 معلومات موثّقة بصور سُرّبت من أحد مستشفيات الاحتلال لآثار التعذيب الذي تعرّض له الأسرى في حملة الاعتقالات التي شملت حناتشة ومغامس. «لم أتعرّف على وليد في الصور»، تروي زوجة وليد، مضيفة إنه «تعرّض للشبح والضرب ساعات متواصلة حتى أغمي عليه. قال لي في زيارة لاحقة إنه ظنّ أنه قد مات أكثر من مرّة».
خلال ذلك التحقيق الذي استمرّ شهرين كاملين على مدار 22 ساعة يومياً، مُنع يزن من مقابلة محاميه، كما عمد الاحتلال إلى اعتقال والدته سناء. تقول: «احتجزوني لساعات فقط، وأتوا به كي يشاهدني من غرفة أخرى أثناء استجوابي للضغط النفسي عليه. لكنه تعذيب لي أيضاً، فأنا أعرف أن ابني يتعرّض للتعذيب في تلك اللحظة ولا أستطيع فعل شيء». وبالطريقة نفسها، اعتقل الاحتلال ميس حناتشة، الابنة الكبرى لوليد. تقول بدورها: «اتّصلت بي مخابرات الاحتلال وأخبروني أنني مستدعاة إلى مركز المسكوبية في القدس عند التاسعة صباحاً، فذهبت»، وتضيف: «بعد استجواب سريع، حضر ضابط وقال لي: أنا آسف لكنك رهن الاعتقال. عرفت فوراً أن الأمر للضغط على والدي، بل من الممكن أنه يشاهدني في تلك اللحظة، فأجبته بكلّ هدوء: حسناً، لا بأس». تكمل ميس: «تساءل متعجّباً من رد فعلي، فأحسست بأنني خيّبت أمله، وهذا زادني ثقة بأن اعتقالي للضغط على والدي فقط، فازددت قوة وتماسكاً». وهكذا، مكثت في الاعتقال ثلاثة أيام أُخبرت خلالها أنها ستُعرض على المحكمة، لكن ذلك لم يتمّ، ثمّ أفرج الاحتلال عنها بعد محاولة أخيرة لإخافتها: «وُجّهت إليّ في آخر جلسة تحقيق تهم بالعمل العسكري، وقال المحقق إنني سأُحوَّل إلى التحقيق العسكري، لكنني لم أتأثّر رغم تفاجئي بالتهم، وبعد ذلك أفرجوا عني». وعندما سمحوا لها بزيارة والدها بعد أشهر، أخبرها بأن المحققين أطلعوه على التهم ضدّ ابنته بل جعلوه يراها، مستدركة: «لما رآني هادئة وأمضغ العلكة، زاده ذلك هدوءاً وقوة بدلاً من كسر معنوياته كما كان يريد الاحتلال».

بين «ردع» و«انتقام»
«عندما كان الاحتلال يهدم منزل عائلة أسير أو شهيد، كنت أتساءل كيف يمكنهم أن يتحمّلوا ذلك؟ يعني معاناة مضاعفة. أن تفقد عزيزاً أو أن يؤسر، ثمّ تفقد منزلك الذي هو مثل الابن. لم أتخيل يوماً أنني سأمرّ بهذه التجربة»، تعود بيان حناتشة إلى ليلة الحادثة وما قبلها. تقول إنه في 30 تشرين الأول/ أكتوبر (قبل هدم المنزل)، جاء جنود العدو ومعهم مهندس وبدأوا أخذ مقاسات البيت، مستدركة: «ظننت أن الأمر مجرّد وسيلة للضغط على وليد. لكن في اليوم التالي اتصلت بي مؤسسة حقوق إنسان إسرائيلية وأخذوا يسألونني عمّا فعلته القوات عند أخذ المقاسات». أمّا حسن مغامس، والد يزن، فيقول: «منذ أن علمنا بأن يزن يخضع لتحقيق عسكري، عرفت أنني لن أراه لمدة طويلة»، ينفث نفساً طويلاً من السيجارة ويتابع، «عرفت أيضاً أن البيت سيُهدم».
منزل حناتشة شقة في عمارة سكنية في الطابق الثالث، ما جعل الاحتلال يعدل أخيراً عن الهدم بالجرافات ويقرّر هدم الجدران الداخلية بالمطارق. ولمّا أُبلغت عائلة الأسير بقرار الهدم في شباط/ فبراير الماضي، توجّهت إلى المحكمة الإسرائيلية بـ«التماس» عن طريق مؤسسة حقوق الإنسان عينها التي تواصلت معها سابقاً، وقد حاججت بأن المنزل يؤوي العائلة. تستطرد بيان: «رفضت المحكمة الالتماس، فقدّمنا استئنافاً أمام المحكمة العليا للاحتلال التي رفضت الاستئناف أيضاً، كما كنا نتوقع... باشرنا إخلاء المنزل والانتقال إلى منزل أهلي في بيت صفافا في القدس المحتلة». وبالنسبة إلى سناء، والدة يزن، «الأمر ليس ردعاً، بل هو محض انتقام»، لأنهم «يعرفون أن هدم البيوت لا يردع أحداً، بل يزيد السخط على الاحتلال، لكنهم يريدون الألم والانتقام فقط». يقاطع الزوج ويوضح: «ما يؤلمني أكثر ليس البيت، بل ابني. ابنك جزء منك وامتدادك في الدنيا، وقد لا أراه ثانية».
منذ 2015 حتى آخر 2020 هدَم الاحتلال 69 منزلاً لعائلات أسرى وشهداء


مع ذلك، للبيت مكانة كما تصف بيان حناتشة. تقول: «عشنا خمسة عشر عاماً في ذلك المنزل. ربيّنا ابنتَينا فيه. أنا من بيت صفافا ووليد من الخليل، لكن ابنتينا تنتميان إلى ذلك البيت في رام الله. كلّ ذكرياتنا وتعب أعمارنا فيه. أين الردع في الأمر. إنه إشباع لرغبة الإسرائيليين في الانتقام». تحتدّ نبرتها وهي تشير إلى ما تراه دليلاً على الرغبة في الانتقام: «في المحكمة لم يسمحوا لابنتي بالحضور، ولم يسمحوا لي بالبقاء إلا دقيقتين. وبعد إخراجي من القاعة سمحوا بالدخول لعائلة المستوطنة التي قُتلت في العملية التي يتهمون وليد بها، وبقوا في المحكمة طوال الجلسة»، ثمّ «عند الخروج رأيتهم. كانوا قد أتوا مع رجال دين وأطفال. لماذا يأتون بأطفال إلى محكمة من هذا النوع؟ الأمر كلّه تشفٍّ سادي وعنصري بنا».

«سيلفي» على الهواء!
عودةً إلى فجر الخميس، الخامس من آذار/ مارس الماضي، حين استيقظت رام الله على اقتحام حيّ الطيرة، حيث منزل حناتشة المهدّد حتى تلك الساعة بالهدم. تكمل زوجة وليد: «على التلفاز شاهدنا بيتنا. كان المبنى مبنى سكننا، والحيّ هو نفسه، لكن جزءاً منّي لم يُرد أن يصدق، وبقيت على الإنكار». في الوقت نفسه، وبالتزامن، كانت الأخبار قد وصلت أهالي بلدة بيرزيت. يقول حسن مغامس: «كنا نتوقع أن يأتوا لهدم منزلنا في الليلة نفسها، وشبان البلدة وأصدقاء يزن يواظبون على السهر في المنزل ترقباً للهدم، فبدأوا إشعال الإطارات وإغلاق الشوارع ونصب المتاريس». وبينما تنقل العدسات ما يجري، والشبان يشتبكون مع القوات المقتحمة، كانت عيون بيان حناتشة وابنتها تلتقط مشهداً آخر: «أمام المنزل ظهر رجل يأخذ لنفسه صور سيلفي بهاتفه مع جنود الاحتلال. دققت النظر في ملامحه، فإذا به المهندس الذي قَدِم قبل أشهر لأخذ قياسات البيت. كان هناك يحتفل بهدم منزلنا!». وبعد نفَس عميق، تقول: «فكّرْتُ في تلك اللحظة في ما تأكّد لي لاحقاً، وهو أن وليد كان يرى المشاهد نفسها في الوقت نفسه من داخل السجن، وهذا آلمني أكثر مما أستطيع أن أصف».

السلطة غائبة
استغرقت قوات الاحتلال أربع ساعات كاملة لهدم منزل حناتشة من الداخل يدوياً، والسبب طبقاً لميس، ابنة وليد، أن الشبان كانوا قد أغرقوا الأرض بالزيت لجعلها منزلقة. حتى إن الشرفة الخارجية التي كانوا يريدون هدمها تركوها كما هي وغادروا. وبعدها بدقائق كانت قوات الاحتلال تواجه عشرات الشبّان في بيرزيت في محيط بيت مغامس. «لم نخرج لنرى ما يحدث»، تروي سناء، والدة يزن، «لكن أصوات الشبّان وطلقات الاحتلال استمرّت حتى مغادرتهم البلدة. في الصباح، ذهبنا لنرى أثر الهدم، ولم أُفاجأ بالركام، لكن بآثار الاشتباك، فقد كان المكان يبدو كساحة معركة». يبتسم زوجها حسن وهو يصف اللحظات نفسها: «ابتسمت آنذاك لكن لا أعرف لماذا. لكنني شعرت بالقوة لا بالضعف. يوم جاء الاحتلال لتسليمنا أمر الهدم، قلت للضابط إننا كنا ننوي هدم البيت على أيّ حال، وإنهم يسدون لنا خدمة إذ يوفّرون علينا أجرة الجرافة».
أمّا معاينة بيان حناتشة، فكانت مختلفة قليلاً. تقول: «في اليوم التالي ذهبت صباحاً إلى رام الله بصحبة ابنتي.

تسبّب الهدم وصبّ الشقق بالإسمنت في جعل 320 فرداً من دون مأوى

صعدت الدرج وأنا لا أزال في حالة إنكار. دخلت الشقة ولم أتعرّف عليها. لم أصدّق أن هذا بيتنا، حتى رأيت حائط غرفة ابنتي المطليّ باللون البنفسجي، فتأكّدْت أن الأمر حقيقي». تتذكّر: «لم يتصل بنا منذ يوم الهدم أيّ أحد من السلطة الفلسطينية». ومع أن المنزل في «منطقة أ»، أي ضمن مناطق سيطرة السلطة وفق «اتفاق أوسلو»، فإن الاحتلال أصدر أمراً بمصادرة الشقة، الأمر الذي يجعلها عرضة لإعادة الهدم في حال حاولت العائلة بناءها مجدداً. تقول حناتشة: «الجهة المختصة في السلطة لم تطالب الاحتلال حتى الآن بإلغاء أمر المصادرة، مع أن البيت في منطقة تابعة لها... هذا التقصير الرسمي يزيد من ألم الضربة. لِمَن يضحّي وليد وبقية الأسرى وعائلاتهم؟ ألا يستحقون تحمّل المسؤولية تجاههم؟».
تجاهل رسمي يؤكده حسن مغامس: «لم يتواصل معنا أحد من أيّ جهة رسمية. انتقلنا للسكن بالأجرة في بيت آخر، وعلينا أن نتدبّر كلّ شيء بأنفسنا، بلا مساعدة من أحد سوى الأقارب وبعض الأصدقاء». تلتقي عيون مغامس بعيون زوجته بضع ثوان، ثمّ يبتسمان قبل أن يؤكدا معاً: «لكننا لسنا نادمين على شيء».



جريمة حرب... «أداة ردع»!

مع أن أحد البيوت في مناطق مصنّفة «أ» لم تتدخّل السلطة لإعادة استعماله بعد الهدم (الأخبار(

على رغم تعريف القانون الدولي لهدم منازل الأسرى والشهداء على أنه جريمة حرب بوصفه عقاباً جماعياً، فإن محاكم الاحتلال تصرّ على أنه «أداة ردع» تُطبَّق على الفلسطينيين حصراً. في تموز/ يوليو 2017، طالب أقارب أسرة الدوابشة، التي أحرق مستوطنون صهاينة أفرادها أحياء داخل منزلهم في قرية دوما جنوبي نابلس بمن فيهم الطفل علي ابن الأشهر الثمانية، بهدم منازل المستوطنين المنفّذين للجريمة. رفضت «المحكمة العليا» للاحتلال الطلب بدعوى أن «الهدم أداة ردع، لا عقاب». بعدها بأربعة أشهر فقط، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، ردّت المحكمة نفسها على التماس قدّمته عائلة الشهيد نمر الجمل ضدّ هدم منزلها بأن الأمر «لا يتعلّق بهدم مسكن أفراد العائلة، بل بالإضرار المالي بها، وليس محطّ اهتمام المحكمة أن مقدمي الالتماس سيبقون بلا سقف فوق رؤوسهم»، وفقاً لإفادة مؤسسة «هاموكيد» الإسرائيلية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا