غزة | انفجرت إشكالية قديمة ــ جديدة بين ملاك «أرض المندوب»، في إشارة إلى المندوب البريطاني إبّان احتلال بريطانيا لفلسطين (1917 ــ 1948)، وبين «حكومة غزة» السابقة التي ترى في «المندوب» أراضيَ حكومية تجب تسوية أوضاعها قانونياً، الأمر الذي يرفضه الأهالي، ولا سيما العائلات المعنية، ومنها عائلات كبيرة كالأسطل والآغا والفرا والشاعر وزعرب وشعث. لذلك، شُكّلت الشهر الماضي لجنة من الجانبين أمامها ثلاثة أشهر يُجرى فيها مسح جوي وميداني للأراضي التي يدافع قانونيون من غزة عن كونها «غير حكومية».تنقسم الأراضي في قطاع غزة وفق قانون الأراضي العثماني لعام 1858 إلى خمسة أقسام (الأرض الملك، الأميرية، الموات، المتروكة والوقف)، ولكل منها تعريف وخصوصية. لكن التغيرات السياسية على الأراضي الفلسطينية أفرزت تقسيماً آخر يسمى «الواقعي»، ويشمل سبعة أنواع (المندوب، المحلول، المالية، الأقساط واللاجئين). و«المندوب» تقع جنوبي القطاع، تحديداً في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، وفي القرارة شمال المدينة، وأيضاً في رفح. وكلها تمتد على الساحل، وتُقدر مساحتها في خان يونس بـ6820 دونماً وفي رفح بـ2290، وفق «سلطة الأراضي».

مشكلة الانتداب
يعود أصل المشكلة إلى عهد الانتداب البريطاني حين اتخذت الإدارة العسكرية قرارات بخصوص ملكية الأراضي، وتحديداً قرار الجنرال آرثر موني في 8-5-1918 وقفَ جميع معاملات ملكية الأراضي العثمانية الخاصة وإغلاق دوائر تسجيل الأراضي (الطابو)، بعدما أخذت السلطات التركية خلال انسحابها إلى دمشق جميع دفاتر «الطابو»، ليضم بعدها المندوب مساحات شاسعة من خان يونس ورفح إلى الأراضي الحكومية. جراء ذلك، اتفق الموجودون في تلك الأراضي على تسجيلها رسمياً لدى الانتداب مقابل دفع الضرائب، وخاصة الأراضي المنخفضة القابلة للزراعة، فيما بقيت المرتفعة (الكثبان الرملية) من دون «تطويب»، ولكنها ضمن حيازتهم استعمالاً واستغلالاً، وسُميت منذ ذلك الحين «أراضي المندوب»، إذ تنسب إليه بصفتها مودعة لديه لكن لحائزيها حق التصرف بها كاملاً حتى استكمال الضم و«التطويب». ثم، في عام 1928، أقر الإنكليز قانوناً لتسوية الأراضي ومسحها وتسجيلها ثم تثبيت حدود واضحة تفصل الأراضي الحكومية عن «المندوب» المملوكة بيد الناس، وذلك عبر كتل خرسانية على شكل مخروط دائري وضعها البريطانيون ولا تزال موجودة وفقاً لخرائط بلدية خان يونس ورفح وكذلك «سلطة الأراضي».
يقول المدير العام لـ«الشؤون القانونية» في «المجلس التشريعي» (البرلمان)، أمجد الآغا، إن الفلسطينيين لم يتعاطوا مع المسح البريطاني بجدية لأسباب أولها الدافع الوطني، فقد كانت «الهيئة الإسلامية العليا»، بقيادة الحاج أمين الحسيني، تحذر من مخطط يهدف إلى «تمرير المخطط الصهيوني للتسلل إلى أراضي غزة، وذلك بتفتيت الملكيات الشائعة فتصبح لقمة سائغة أمام الصهاينة». السبب الثاني، وفقاً للآغا، هو الفقر، فالسكان كانوا يسجلون الأراضي المسطحة القابلة للزراعة والقريبة من مصادر الري لأنها ستعود عليهم بالنفع وتدر عليهم دخلاً، ولهذا دفعوا رسوماً وضريبة العشر التي كانت تسمى «الويركو» (ضريبة الانتفاع). أما الكثبان الرملية، فلم يعنوا بتسجيلها لكنها بقيت لهم. هنا توافَق الأهالي مع المندوب البريطاني على استصلاح الكثبان شيئاً فشيئاً وضمها إلى أراضيهم المسجلة، ومن هذا المنطق هي مختلفة عن الأراضي الحكومية. يشار إلى أن الأخيرة في غزة تبلغ نسبتها 31% من إجمالي مساحة القطاع، بواقع 101 ألف دونم، فيما تبلغ أرض الطابو 184,573 دونماً وتسمى قانوناً «أرض أهالي»، وفقاً لمصادر في «سلطة الأراضي».

من الاحتلال حتى مجيء السلطة
استمرت الآلية البريطانية في التسجيل حتى عام 1948، العام الذي أقيمت فيه إسرائيل وقررت وقف تسجيل الأراضي، الأمر الذي شكل نقطة فارقة في تاريخ «أراضي المندوب». آنذاك، حذرت «منظمة التحرير الفلسطينية» الأهالي من التعاطي مع أي تسجيل لدى الاحتلال، واصفة من يفعل ذلك بأنه «خائن ومتخابر». يقول الآغا: «استنكف الأهالي عن التسجيل بسبب الحس الوطني وبقيت الأراضي على ما هي عليه». ويضيف: «أثبتت وثائق ومراسلات لدى الجمعية الزراعية في خان يونس أن مأمور التسوية عفيف أسعد، ممثلاً عن المندوب السامي، أرسل أثناء خروجه من غزة رسالة إلى أمين سر الجمعية آنذاك سنة 1948 بالاعتذار عن الاستمرار في تسجيل الأراضي (المندوب) وتسويتها بسبب دخول المحتل الإسرائيلي، وهو ما يُشكل قرينة على خصوصية هذه الأراضي». والرسالة مكتوبة بالإنكليزية وموجودة الآن لدى «الجمعية الزراعية» في خان يونس.
تضم اللجنة المشكّلة لحل المشكلة قائد «حماس» في غزة


في العهد المصري (1948 ــ 1967)، أبلغ الحاكم العام آنذاك، الفريق أول يوسف العجرودي، «واضعي اليد» بأن من يريد أن يسوّي وضع أرضه عليه أن يتقدم بطلب، وذلك عام 1966. وكل من تقدم بطلب مُنح شهادة «طابو». لكن في السنة التالية، حين احتلت إسرائيل قطاع غزة والقدس والضفة وجزءاً من سيناء، عادت «منظمة التحرير» مرة أخرى إلى تحذير الناس من التعامل مع الاحتلال في عملية التسجيل. مع ذلك، تمكنت بعض العائلات من تسجيل مساحات كبيرة من «المندوب»، وحصلت على شهادات، لكنها اتُّهمت بالعمالة جراء ذلك. ثم مع مجيء السلطة الفلسطينية عام 1994 انطلقت المشاريع لتسوية الأراضي غير المسجلة، وأبرزها المشروع الفنلندي الذي خصص موازنات ضخمة، فوجدت السلطة مساحات شاسعة في خان يونس ورفح تحتاج إلى حل. لذلك، عمل وزير العدل عام 2002، فريح أبو مدين، على إجراء تسوية بعد إنشاء «سلطة الأراضي»، وبدأ من رفح، لكن التسويات لم تكن وفق معيار محدد، بمعنى أن كل أرض لها تسوية خاصة، فثمة من حصل على تسوية تقوم على إعطائه 25% من الأرض واسترداد الباقي للحكومة، ومنهم 50% لهم و50% للحكومة، ويعود هذا التفاوت إلى مساحة الأرض ومدة حيازتها. يعلق الآغا: «لم تكن تسويات رسمية كبيرة وشاملة لكنها أشبه بتسويات فردية، والدليل أنها لم تُنشر في الجريدة الرسمية».
بعد فوز «حماس» بالانتخابات التشريعية عام 2006 توقفت التسوية والدعم الفنلندي وكذلك النرويجي بنحو ثلاثة ملايين دولار. وبعد سيطرة الحركة على القطاع بسنوات قليلة، صدر قرار من مجلس الوزراء سنة 2013 لتسوية «المندوب» و«المحلول»، بإعطاء نسبة 45% من الأرض لمالكيها عبر شراء هذه النسبة على أقساط طويلة الأمد تمتد إلى عشرات السنين، فيما تعود 55% إلى الحكومة. هذا العرض لم يلقَ قبولاً عند الأهالي فجرى تعديله بإعفاء الأهالي من دفع الأقساط مقابل أن يحصلوا على 18% من مساحة الأرض والباقي للحكومة وبـ«تطويب» مباشر، وهو ما رفضه الأهالي أيضاً وتصدوا له بقوة. قانونياً يرى الآغا أن قرار «حكومة غزة» السابقة يتنافى مع مبادئ قانونية راسخة ولا سيما في «مجلة الأحكام العدلية»، مثل المادة 5 التي تقر ببقاء الأصل على ما كان، والمادة 6: «القديم يُترك على قدمه»، و10: ما ثبت بزمان يُحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه، فإذا ثبت في زمان ملك شيء لأحد يُحكم ببقاء الملك ما لم يوجد ما يزيله، ما يعني أن ملكية «المندوب» لحائزيها تبقى حتى يظهر ما يدحضها.
يضيف المدير العام لـ«الشؤون القانونية»: «كنا نتوقع أن تقرر الحكومة للحائزين نسبة محددة، هبة بلا مقابل، لكن أن تُخصص للحائز 45% مدفوعة الثمن بامتيازات وتسهيلات وهمية، هذا ينطوي على ظلم بيِّن ويدعو للاستغراب لأنه يساوي بين المتعدين على الأراضي الحكومية وبين الحائز هذه الأراضي منذ ما يزيد على 150 عاماً».

«ليست حكومية»
في الأسابيع القليلة الماضية، عادت إشكالية «المندوب» وخاصة أن هذه الأراضي آخذة بالتقلص والتفتت جراء نية العائلات الواضعة اليد الانتفاع من هذه الأراضي، وكونها غير مسجلة، لا يُسمح فيها البناء أو الانتفاع إلا بعد التسجيل ودفع رسومها، وهذه هي الشرارة التي أشعلت الأزمة مجدداً. فالعائلات تريد البناء للتوسع، لكن ما إن يبدأ البناء حتى تتوجه شرطة «سلطة الأراضي» للهدم، وهذا ما حدث قبل شهر مع عائلتَي شعث والأسطل. مع ذلك، يرى قانونيون كثر أن «المندوب» ليست أراضيَ حكومية، فيما يقول الآغا: «وجهة نظري، وفقاً لما قرأت في كتب التاريخ، هي ليست حكومية، ومستندياً ووثائقياً الأرض المندوب مسجلة أرض حكومة لكن ميدانياً وواقعياً وحيازة وملكية هي غير حكومية بل هي ملكية الأشخاص الواضعي اليد». وجراء الاختلاف في التفسيرات، تُعقد حالياً لقاءات واجتماعات بين الأهالي والحكومة السابقة لإيجاد تسوية بطريقة ما.
وفق مصادر، أدى حراك الوجهاء والمخاتير إلى توجه لدى سلطة الأراضي لحل هذا الإشكال جذرياً، ولذلك تم الإجماع على مسح «المندوب» مسحاً جوياً وميدانياً كاملاً لإحصاء عدد المباني والمساحة وحتى الأشجار، وذلك على غرار ما حدث عام 1928. وفي ضوء نتائج المسح الذي سيستغرق ثلاثة أشهر، ستوضع حلول لكل حالة على حدة. حول طبيعة الحل يتوقع الآغا سيناريوات منها عملية بيع بأقساط طويلة الأمد قد تمتد إلى خمسين عاماً كما حدث أيام المصريين، أو في حال كانت المساحة صغيرة أن يتم تطويبها مباشرة مقابل رسوم عالية، وأخيراً اقتطاع جزء من هذه الأراضي للحكومة وتخصيص جزء للمالك حسب المساحة. يقول محمد الأسطل، وهو أحد أعضاء اللجنة المشكلة من «حكومة غزة» للتفاوض مع الأهالي، إن القضية صارت قضية رأي عام لأنها تمس فئة كبيرة من ملاك الأراضي في رفح وخان يونس، لكنه يدافع عن موقف الحكومة بالقول: «الأصل أن تقوم الحكومة على تطوير هذه المناطق لكن الجاري حالياً هو توقف الحياة هناك لأنه يُمنع البناء إلا بعد إتمام التسجيل». ويضيف الأسطل: «البلدية تدفع أموالاً طائلة لهدم ما يبنيه المواطنون في المندوب، لذلك الأولى التسوية ودفع التراخيص اللازمة، فتستفيد البلدية وفي الوقت نفسه تتحرك المنطقة تطويرياً وعمرانياً». وكان ملاحظاً أن اللجنة تضم قائد «حماس» في غزة، يحيى السنوار، وأعضاء من المكتب السياسي للحركة، واللجنة القانونية في البرلمان، ورئيس «سلطة الأراضي»، ماهر أبو صبحة، ومسؤولي البلديات بجانب 50 شخصية عن الأهالي.
يقول الأسطل: «يجب على الحكومة أن تنتهج ما قامت به بريطانيا من عملية تطويب للأراضي بعد استيفاء الإجراءات الفنية المتعلقة بالتسجيل ودفع ما عليها من ضريبة... هذه الأراضي مناطق سياحية مفيدة للبلدية والملاك، لكن وفق آلية وضمن رؤية استراتيجية في أن تتحول الأراضي إلى مناطق ذات دخل سياحي اقتصادي للحكومة والمواطن». يشار إلى أن منطقة المواصي التي يقع فيها جزء من هذه الأراضي تشكل ثلث مساحة المحافظات الجنوبية، وهي سلة قطاع غزة الزراعية، إذ تزود الأسواق المحلية والضفة وبعض دول الخليج بفواكه وخُضر كثيرة. أما الأهالي، فيقولون إن رفضهم لما طرحته الحكومة هو أن «أجدادنا هم ملاك هذه الأراضي وغالبيتها مسجلة، لكن البقية منها، بسبب الفقر، لم يتمكنوا من تسجيلها والحكومة تسعى إلى انتزاعها منا»، رافضين الحل القاضي بإعطائهم 18% من الأرض فيما تحصل الحكومة على الباقي.



الأرض مقابل الراتب
تكثر الانتقادات لطريقة «حكومة غزة» في معالجة ملفات الأراضي جراء قرارات كثيرة اتخذتها، منها أنها بدأت منذ عام 2016 تخصيص آلاف الدونمات من أراضي القطاع لموظفيها (40 ألفاً) مقابل المستحقات المتراكمة عليها لهم، وخاصة أنها تعاني منذ سنوات أزمة مالية حادة جعلتها غير قادرة على دفع رواتب موظفيها كاملة. كما يُتهم بعض أصحاب النفوذ بتمييز بعضهم في هذا المشروع بأخذ أفضل الأراضي، فضلاً عن الاستفادة من أراضٍ حكومية للانتفاع الخاص. في هذا الملف، قال عضو المكتب السياسي لـ«حماس»، زياد الظاظا إن مستحقات الموظفين ستُسوى عبر توزيع 1200 دونم بنظام القرعة من أراضي الشمال والجنوب، وهو ما أثار رام الله التي رأت أن هذه الأراضي «ملك الدولة وليس ملك حماس». ووفق أرقام من مصادر خاصة، خصصت «سلطة الأراضي» من الأراضي الحكومية أكثر من نصف مليون متر مربع منذ مطلع عام 2019 وحده، منها أراضٍ لإنشاء مشاريع زراعية بمساحة 385 ألف متر مربع، وإنشاء مساجد ومشاريع إسكانية ومراكز رعاية للفئات المهمشة تُقدر بـ16 ألفاً، وأراضٍ لإنشاء مشاريع الطاقة الشمسية إضافة إلى عدد من المشاريع التي تنفذها الوزارات المختصة.