جنين | بعد 25 يوماً من البحث المضني والملاحقة فوق الأرض وفي الخفاء، أعلن العدو الإسرائيلي رسمياً فكّه لغز عملية الحجر في يعبد جنوب غرب جنين (شمالي الضفة المحتلة)، التي قتلت جندياً في لواء «جولاني». لكن مسلسل المفاجآت يبدو بلا نهاية، إذ إن مُلقي الحجر هو نظمي محمد أبو بكر، كهلٌ في العقد الخامس. «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة. في الأرض سنبلة. في الأرض قنبلة»، هذه الكلمات كرّرها أبو بكر من أعلى شجرة في موسم الزيتون عام 2016، حيث يظهر وهو يلقي كلمات وطنية في فيديو التقطه أحد أقربائه. يبدو أن أبو بكر، ذا الصوت الجهوري، قرّر في لحظة حاسمة أنه يستطيع تحويل هتافه العالي المتبوع بضحكاته التي اختلطت مع قريبه إلى جدّ وحزم، ليطيح بجندي نخبة. يهتف صارخاً في نهاية الفيديو: «اضرب بيمينك. بخنجرك ولا تتردّد». يضحك الجميع، فيضحك أبو بكر وينتهي الفيديو بضحكة المصوّر.لم تتوقّع عائلة أبو بكر بل حتى مخابرات العدو نفسها أن يكون نظمي هو العقل المدبّر وصاحب اليد التي ألقت حجر يعبد فأردت عميت بن يغال قتيلاً. بات واضحاً بعد التحقيقات أن المنفذ حسم قراره في لحظات قصيرة، ونجح في اقتناص الفرصة فور توفرها، مثل كثير من عمليات المقاومة الفردية. أهالي يعبد، وعائلة نظمي، أصيبوا بالدهشة، ولم يصدقوا ما كشف عنه العدو، فالرجل يوصف بأنه «بسيط وليست له تجارب فدائية سابقة ولا صاحب سجلّ مقاوم لدى الإسرائيليين». تقول العائلة إن نظمي أبٌ لأربعة من الذكور ومثلهم من الفتيات، وأصغر أولاده رضيع لم يُكمل العاميْن، وهو يعتمد في حياته على تربية الدواجن وقطف الزيتون فقط. وأعلن العدو رسمياً أن الرجل اعترف بقتل الجندي وأعاد تمثيل العملية في مكان وقوعها، كما نشر صورة له عقب اعتقاله.
لم تتوقّع عائلة أبو بكر بل حتى مخابرات العدو أن يكون نظمي هو المنفذ


بالعودة إلى تفاصيل صبيحة العملية، في الثاني عشر من الشهر الماضي، شنّت قوات العدو حملة اعتقالات «روتينية» طاولت أربعة شبّان. خلال انسحابها ومرورها بحي السلمة وسط البلدة قرابة الساعة 4:30 فجراً، أُلقيت «طوبة بلوك لأغراض البناء» على القوة الراجلة فسقطت مباشرة على رأس الجندي الذي أُعلن مقتله لاحقاً. النطاق الجغرافي المحصور مكّن مخابرات العدو من الاستدلال على مصدر إلقاء الحجر: بناية مكوّنة من ثلاثة طوابق تعود إلى عائلة عصفور التابعة لحمولة أبو بكر، فكثّفت الاعتقالات بحق سكان البناية وما يجاورها من منازل. ثم اعتمد خبراء العدو على تقنيات حديثة في احتساب المسافات والاتجاهات وقوة ضربة الحجر وتأثيره لتحديد هوية المنفذ وتضييق الاحتمالات. لذلك، يبدو أن نظمي صمد في التحقيق ورفض الاعتراف لأسابيع. وقد ذكر موقع «والّا» العبري بعد 11 يوماً على وقوع العملية أن مخابرات العدو تواصل تحقيقاتها وجمعت بعض الحجارة من أماكن مختلفة في البلدة، بما فيها مكان مقتل الجندي ومناطق المواجهات في الحي نفسه (حي السلمة) في محاولة للوصول إلى نتيجة تطابق تحليل DNA للجندي.
جمع الحجارة لم يكن غريباً على العدو، وصعوبة التحقيق في هذه العملية رغم ضيق الحيز المكاني تعود إلى أسباب أبرزها أنه لا مقاومين أو أسرى محرّرين في البناية ومحيط مقتل الجندي، إضافة إلى عمر منفذ العملية (49 سنة). فهذا النوع من العمليات مرتبط بالشبّان في العشرينات والثلاثينات على أكثر تقدير، كما أن نوعية الحجر المُستعمل في العملية وطبيعته صعّبتا على مخابرات العدو الجزم بهوية المنفذ عبر التحليل الجنائي والبصمات. تكشف مصادر عن أن الحجر المستعمل هو «طوب أو بلوك» لأغراض البناء، إذ يتفتّت إلى أجزاء صغيرة عند سقوطه من الأعلى بقوة. فلو كان رخاماً صلباً أو صواناً، لكان من السهل الحصول على البصمات عنه ومطابقتها مع بصمات المعتقلين على خلفية العملية. ولهذا تتعزّز نظرية صمود أبو بكر الذي اعتُقل منذ يوم تنفيذ العملية، علماً بأن العدو اعتقل زوجته وابنته لمرات خلال التحقيق، وكل هذا أدّى إلى تأخر العدو في كشف ما جرى.
مع كل ذلك، تضع طبيعة منفذ العملية وعمره العدو أمام مشهد أكثر ضبابية، وتجعله يدرك أنه لا إمكانية للتعرف إلى المقاومين من منفذي العمليات الفردية غير المنظمة سريعاً أو بسهولة أو استباقياً، الأمر الذي يبقيها خطراً حقيقياً يدهم جيش العدو ومستوطنيه في الضفة في أيّ لحظة.