غزة | صراع يدور رحاه داخل إحدى الجمعيات السلفية في قطاع غزة يكشف عما كان مستوراً من «بذخ» سعودي في تمويلها طوال السنوات الماضية، ويُسدل الستار عن قضايا فساد وتوظيف سياسي لهذا التمويل. فصول الحكاية بدأت منذ عام ونصف تقريباً، بعدما اشتدّ الخلاف بين أقطاب القيادة السلفية داخل «جمعية الكتاب والسنة»، وهم من أبرز المكونات لهذا التيار. أدّت الأزمة داخل الجمعية المموّلة سعودياً إلى انشقاقات أبرزها خروج مدير الجمعية السابق، عبد الله المصري، وتأسيسه «مبادرة أهل السنة»، قائلاً لـ«الأخبار»، إن «تكتّلاً» داخل الجمعية أطاح به، ومشيراً إلى أن الخلاف بدأ بعد انتخاب مجلس إدارة جديد للجمعية برئاسة إبراهيم الأسطل.وفق مصادر مطلعة، حسم الأسطل الخلاف لمصلحته بعد زيارة إلى السعودية في شباط/ فبراير الماضي، ضمن الترتيبات الجديدة للتمويل والمرجعيات داخل الجمعية التي تأسّست عام 1975، ومنذ ذلك الوقت لم تجرِ فيها انتخابات إلّا تلك التي جاءت بالأسطل إلى الرئاسة. طوال ذلك الوقت ظلّت الجمعية تعمل تحت إشراف المصري الذي لم يكن له أيّ منازع، وكانت الانتخابات كل ثلاثة أعوام مشهداً صورياً فقط، لكن الانتخابات الأخيرة مثلت نقطة تحوّل، وأطاحت بالمصري بسبب قُربه من حركة «حماس»، كما تقول المصادر، وهو ما يؤكّده الرجل ضمنياً بقوله: «هناك تكتّل من أشخاص محدّدين صوّتوا للأسطل»، لافتاً إلى رفضه أن تعمل الجمعية لجمهورها فقط، أي السلفيين، بل «للمجتمع ككل من أهل السنة».
تمتلك «دار الكتاب والسنة» سلسلة مدارس ابن عثيمين، ورياضاً للأطفال، وسلسلة «مخابز الشام»، ومعاهد «دار الحديث»، وبنايات وقفية، وعيادات ومستشفيات صغيرة، إلى جانب ما يقارب 30 إلى 40 دونماً من الأراضي، ورصيداً أساسياً قيمته حتى الأشهر الأخيرة ثلاثة ملايين دولار. وفق المصري، هذه الممتلكات التي تقدّر بعشرات الملايين «لا تُدار بالطريقة الصحيحة»، وهذا من الأسباب التي «دفعتني إلى ترك الجمعية»، مستدركاً: «الإدارة الحالية ليست ناجحة لتدير هذا كلّه، والطريقة التي تعمل بها لا تناسبني».
تواصلنا مع أسامة اللوح، وهو المتحدّث الرسمي باسم الجمعية، وقد أقرّ بوجود تجاوزات من بعض العاملين، لكنّه رفض إطلاق وصف «فساد» على ما يجري، كما لم ينفِ وجود «خلاف شديد في الجمعية» من دون أن يكشف عن تفاصيل أكثر. يقول اللوح إن وزارة الداخلية في غزة «أجرت تحقيقات في بعض الملفات المالية، وتم التنبيه حول بعضها... هذه الإجراءات جاءت بعد تجاوزات من بعض العاملين، مثل أن يصرف أحدهم دون حساب، أو لا يسجّل المبالغ المصروفة بآلية منظّمة». لكن المصري يقول: «مَن داخل الجمعية لم يراعوا المال العام، بل يصرفون بغير وجه حق، ولو سألت أيّ شخص من الشارع، فإنّه يعرف أكثر منا بأخطاء الجمعية، وهذه كلها أخطاء لكنها في المصطلح المعاصر فساد».
تعاني هذه الجمعيات من تخفيض الدعم بعد إعلان «صفقة القرن»


عن نشاط الجمعية الحالي، يقول اللوح إنها قبل الخلاف كانت تنفّذ مشاريع خلال رمضان فقط، تصل قيمتها إلى أكثر من 300 ألف دولار، على مستوى غزة وبعض المدن في الضفة، فيما تقول المصادر إن «الجمعيات المموّلة والمدعومة سعودياً تعمل بنظام البركة، أي لا يحكمها نظام مالي وإداري واضح، ولذلك يجري توزيع الأموال دون توثيق». وبرغم أن «دار الكتاب والسنة» تعرّف نفسها بالخيرية، فإنّ هذا لا ينفي عنها العمل السياسي، إذ يقول النائب في المجلس التشريعي سالم سلامة، عن «حماس»، إنّها «مؤسسات خيرية وبعضها علمية كما يزعمون، لكن قطعاً هذه الجمعيات لها اتّصال مع السعودية، لأن تسمية جمعية ابن باز من السعودية، وهناك جمعية أعلم علماً يقيناً بأنّ أعضاءها يتلقون رواتب حتى الآن من الرياض، مثل الهيئة العليا للعلوم الإسلامية».
يتّفق مع سلامة الناشط السعودي محمد العمري، المقيم في بريطانيا، قائلاً إن دعم المملكة «يصبّ في تشكيل خلايا ضغط تستخدم لشقّ الجماعات السياسية والدينية التي تعارضها المملكة وترى في نشاطها خطراً عليها»، مضيفاً: «الموقف السعودي كشف بوضوح الأهداف الحقيقية لدعم وتمويل هذه المؤسسات، خاصة أنها تتسق مع المزاج الفقهي للمحيطين بأركان الدولة الأمنية». ويرى العمري أن العاملين في هذه الجمعيات قد لا يكونون سيئين، لكنه «يجري استغلال بعضهم فيعملون وكلاء أمنيين واستخباراتيين من حيث لا يعلمون». أما سلامة، فيرى أن هذه الجمعيات تأتمر بأمر الممول مباشرة، وأن الرياض قد توقف تمويلها إذا شعرت أنها قريبة من «حكومة غزة»، مضيفاً: «كل هذا التمويل يأتي بموافقة أميركية، خاصة أن المخابرات الأميركية ضابطة لكلّ التحويلات المالية التي تصل إلى غزة».
في المقابل، يرى يونس الأسطل، وهو عضو في «رابطة علماء المسلمين»، أن «دور هذه الجمعيات بسيط، وهو مقتصر على تغيير بعض البدع، والتركيز على قضايا التوحيد، ولا تحمل مشروع تغيير كبير مثل إقامة الخلافة الإسلامية أو المقاومة، ولذلك برنامجها وأفقها بسيطان». لكن يبدو أن هذه الجمعيات، التي عاشت الترف في واقع اقتصادي مأسوي في غزة، صارت تعاني من تخفيض الدعم، تحديداً بعد «صفقة القرن» وإعلان الإدارة الأميركية ادّخار الأموال، التي تحوّلها بعض الدول إلى جهات فلسطينية مختلفة، في صندوق خاص للترويج للصفقة، كما تنقل المصادر عن الأزمة المالية المستجدّة. هنا، يقرّ اللوح بأن «الدعم السعودي (لـ«دار الكتاب والسنة) كان يغطي أكثر من 70% من إجمالي موزانتها، لكن بعد سياسات المملكة الأخيرة قلّ هذا الدعم بصورة كبيرة».