«نحن هُنا، في أواخر شهر الصوم؛ حيث قسّم الصغير زيد أيامه بين عائلة والده في بلدة الظاهرية جنوبي مدينة الخليل، وعائلة والدته في مخيم الفوار. اليوم كان دور الأخيرة»، كما يسرد التفاصيل لـ«الأخبار» أحد سكّان المخيم. اجتهد الصبي في إثبات قدرته على الجوع والعطش، ففي ساعات المساء سيُعلن الأذان لحظة الإفطار، وعليه أن يكون قد استحقّ سؤال والدته «هل أسكب لكَ بعض القدرة أو المقلوبة يا حبيبي؟». لن يتحقّق شيء من ذلك، ففي وقتٍ مبكر سيقتحم جيش العدو الإسرائيلي المخيم لاعتقال عددٍ من الشبان الذين اشتبك معهم قبل أيامٍ في عين الدلبة قرب المخيم.يسمع الصبي زيد جلَبة محرّكات الجيبات العسكرية، ووقع أقدام بساطير القناصة وهي تعتلي أسطح البيوت، يقطعه بين الفينة والأخرى هدير الأباتشي التي حلّقت في السماء لتصويب بنادق القتل على الأرض. هُنا يصل نباح الكلاب - العسكرية أيضاً - هذه المدرّبة على شمّ رائحة أولئك الشبان الذين حاولوا التواري بين زواريب المخيم كي لا يُعتقلوا. يهرع زيد إلى سطح المنزل للتفرّج على هذا كله، من بعيد تصل الرصاصة إلى جمجمته الصغيرة: قناص إسرائيلي قتله. تهرع أخواته الفتيات يصرخن، مُحِاولات إيقاف نزيف دمه، لا يفلحن. سريعاً يهبطن به إلى الأسفل فينقلنه إلى الإسعاف وهناك يُعلن عن استشهاده.
في ساعات الظهر، يعود الجثمان مرّة أخرى في سيارة الإسعاف إلى منزل الأم في مخيم الفوار، هناك يُمدّد على لوحٍ خشبي فوق طاولة، فيما مئات الأفواه حوله تكبّر وتصرخ. أمّا أم زيد، فتقف فوق ابنها الشهيد، تحضن رأسه الملفوف بشريط أبيض تبلّله بدموعها. «زغردي يا إم الشهيد»، يقول لها أولئك الشبان الذين التفّوا حول الجثمان، تجتهد، فتفعلها أخيراً. في الجنازة تمشي الأم، شابكة ذراعيها بأذرع أمهات أخريات، تبكي وتردّد هائمة: «إبني حبيبي شهيد».
بعد ذلك كلّه، يُنقل جثمان الشهيد إلى مسقط رأسه ليوارى الثرى في الظاهرية، فتُغلق دائرة حياته بعد 15 عاماً من بدايتها، ويُكتب فوق قبره: الشهيد زيد فضل قيسية. واليوم هو الأوّل حيث يظهر فراغ على الطاولة، إذ أنّ أحد المقاعد سيظلّ شاغراً إلى الأبد، ليس فقط في الأيام التي تبقت من شهر رمضان لهذا العام، بل في كلّ عام، حيث لا تعود للأم ولا للأخوات قدرة على ابتلاع الطعام؛ إذ ستعلق في حنجرة كل منهن لقمة كلّما تذكرنّ أن فرداً من هذه العائلة عمره 15 عاماً استُشهد في أحد أيام «الشهر المبارك».
هكذا إذاً، قبل يومين اندلعت اشتباكات في عين الدلبة قرب مخيم الفوّار، بين جنود العدو الإسرائيلي وشبان المخيم، أصيب إثرها عشرات الفلسطينيين بحالات اختناق جرّاء قنابل الغاز المسيّل للدموع، وآخرون بالرصاص المعدني المغلّف بالمطاط. صباح اليوم، عاد الجنود لاعتقال من شارك في هذه الاشتباكات فاستُشهد زيد فيما كان يتفرّج من سطح منزله على عملية الاقتحام، كما أُصيب ثلاثة آخرون بالرصاص الحي.
كلّ هذا يأتي بعد يومين على مقتل جندي من الوحدة الخاصّة التابعة للواء «غولاني»، بعدما أُلقي حجر باتجاه رأسه من أحد أسطح المباني، في قرية يعبد شمالي غربي جنين (شمال الضفة المحتلة). وهو ما أدّى إلى إصابته بجراح بالغة، ما لبث بعدها أن فارق الحياة أمس في مستشفى «رمبام» في حيفا.
وبحسب تفاصيل التحقيق التي نشرها جيش العدو في الحادثة، فإنّ «الجندي القتيل عاميت بين يغال كان ضمن مجموعة من جنود الجيش التي سارت بمحاذاة المنازل في قرية يعبد في نهاية حملة اعتقال. وأنه في حوالى الخامسة فجراً سمع بن يغال صوتاً من أعلى أحد المنازل فصوّب سلاحه باتجاه الصوت، وسريعاً أُلقي حجر كبير على وجهه، إذ إن الخوذة التي يرتديها لم تحمِه لأن الحجر أصاب وجهه، ما يعني أن إثارة الضجيج كانت متعمّدة كي يصيب الحجر وجهه».
التحقيقات بيّنت أيضاً بحسب ما نشره الجيش «تأخّر جنود (الأخير) في اتّخاذ القرار بإغلاق البلدة والبحث عن مُلقي الحجر، كما أن القوّة اختارت الخروج راجلة لا داخل آليات، وهو ما يخضع للتدقيق». هكذا إذاً عاد جنود العدو للانتقام من مقتل أحد أفراد «نخبتهم»، هذه المرّة ليس في يبعد شمالاً والتي تجدّد اقتحامها صباح اليوم، ولكن في جنوب الضفة في مخيم الفوار بالخليل، عبر قنص طفل صغير كان يتفرّج على عمليتهم من على سطح منزله.