غزة | لا يزال الموعد الدقيق لافتتاح «مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني» في قطاع غزة غير معلوم رغم كثرة التصريحات الرسمية عن قرب ذلك، وآخرها حديث المدير العام للمستشفيات في غزة، عبد السلام صبّاح، في الثالث من الشهر الجاري، عن أنه من المتوقّع بدء العمل قريباً بعد اعتماد الموازنة التشغيلية للمستشفى في البرلمان التركي. لكن تصريح صبّاح ليس الوحيد، بل يأتي بعد وعود كثيرة بافتتاح المستشفى بدأت منذ عام 2017 عبر الصفحة الرسمية لـ«الصداقة»، في منشور جاء فيه أنه تم الانتهاء من تجهيز المبنى بانتظار الانتهاء من مرحلة التأثيث ثم التشغيل. كما صدر عن رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، حديث في التاسع من كانون الأول/ديسمبر الماضي بالمضمون نفسه، وكذلك وزيرة الصحة في رام الله، مي كيلة، التي قالت في السادس عشر من الشهر نفسه إن التشغيل سيكون مطلع هذا العام، 2020.بدأت حكاية «الصداقة» في عام 2011 بعدما تقدّم وفد من «الجامعة الإسلامية» برئاسة أمين مجلس أمنائها آنذاك، جمال ناجي الخضري، بطلب إلى رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب إردوغان، بتمويل مستشفى جامعي. وافق إردوغان (صار رئيساً بعد 2014) مقترحاً على الوفد تطبيق نموذج عن مستشفى جامعي من العاصمة أنقرة في غزة. مع أن الطلب جاء من «الإسلامية»، التابعة لحركة «حماس»، فإن الاتفاق رسمياً تم في عام 2014، مع وزير الصحة في السلطة الفلسطينية آنذاك، جواد عواد. ورغم تبني الجامعة مشروع المستشفى كإنجاز يحسب لها، فإن الترتيبات الخاصة به ظلت طي الكتمان من جانب الحكومة التركية، قبل أن يتضح للجميع أن الأخيرة وضعت المشروع بيد السلطة عبر اتفاق بين وزيري الصحة. حاولنا الحصول على تعقيب رسمي من «الإسلامية» و«الصحة» الفلسطينية، لكننا لم نتلقَّ أي رد.
تكشف مصادر مطلعة على الملف أن إدارة «الإسلامية» هي من توكل بالموضوع في بدايته، بل اختارت فعلاً نموذج المستشفى في تركيا، وكذلك موقعه في منطقة الزهراء وسط القطاع، بمساحة 34 ألفاً و800 متر، مستدركة: «ظل تشغيل المستشفى عالقاً لثلاث سنوات (2011 ـــ 2014) بسبب الحاجة إلى تصويت البرلمان التركي على منح 42 مليون دولار للمشروع، لأن البرلمان هو المخول الموافقة على المنح الخارجية»، ثم جاءت الصدمة بأن التنسيق يجري مع رام الله. ربما يكون هذا غريباً على من لا يعرفون طبيعة العلاقة بين «حماس»، أو «حكومة غزة» السابقة، وبين أنقرة. فرغم «الارتباط المعنوي» الكبير، خاصة بين القاعدة الشعبية للحركة، وبين حزب «العدالة والتنمية» في تركيا، فإن ذلك لا ينعكس بصورة مثالية في عالم السياسة عندما يتعلق الأمر بالسلوك التركي، إذ أن قائمة الاتفاقات التي وقّعتها تركيا مع السلطة تساوي حجم الرفض التركي لمشاريع طلبت «حماس» تمويلها. بل إنه في أيلول/سبتمبر 2018 تم الاتفاق بين رام الله وأنقرة على التنسيق في المجالات كافة بين الحكومتين بما يشمل المساعدات الإنسانية. وسبق ذلك، في أيار/مايو 2017، توقيع رئيس الوزراء الفلسطيني السابق، رامي الحمدالله، على بروتوكول ينص على ألّا «ينفذ الدعم التركي الرسمي للفلسطينيين إلا عبر المؤسسات الرسمية الفلسطينية» (راجع «الأخبار»: رام الله تصطاد في المياه العكرة: علاقة «حماس» بتركيا في أسوأ أحوالها!، 14 كانون الأول 2018).
تأخر افتتاح المستشفى بسبب تقلّب العلاقة بين السلطة و«حماس» وتركيا


على مدى حصار غزة (منذ 2007)، سعى إردوغان إلى تعزيز الدعاية التي تظهره وتركيا كمصدر مهم لدعم الفلسطينيين، والغزيين على وجه التحديد، ثم زاد ذلك بعد «مجزرة مرمرة» (201) حين استشهد تسعة معظمهم من الأتراك الذين أتوا لـ«كسر الحصار». ساهمت هذه الحادثة، وما تلاها من أزمة سياسية (ظاهرية) مع إسرائيل، في صعود نجم إردوغان في السياق الفلسطيني، رغم إنكار الأخير في النهاية صلة دولته بالأسطول، إلى حين أن عادت العلاقات التركية ــــ الإسرائيلية إلى سابق عهدها، علماً أنها بقيت على حالها في الشأنين الاقتصادي والأمني. بالتوازي، كان النشاط التركي في الدعم المقدم إلى الفلسطينيين ضئيلاً، ومن الأمثلة حجم المساهمة في ملف الإعمار، إذ أنه بعد حرب 2014 ساهمت أنقرة في «مشروع جحر الديك» ببناء ثلاث بنايات من أصل 320 وحدة سكنية في تلك المنطقة الواقعة شرقي القطاع، بما لا يتعدى مبلغ مليوني دولار. بل إن مصدراً مطلعاً على ملف الإعمار يكشف أن هذا المبلغ كان «تبرعاً مقدّماً من الشعب التركي بعيداً من الدولة»، مشيراً إلى مشروع رسمي آخر هو «مسكن ريم» المخصّص لـ1200 شخص في غزة، لكن ما دفعته الدولة التركية كان تكلفته الإجمالية ثمانية ملايين، أي ما يلبي حاجة 250 مستفيداً فقط. أما مساهمة «الهلال الأحمر التركي» بعد حرب 2014، فتمثلت في 104 آلاف دولار فقط.
هذه المساهمات ضئيلة مقارنة بحجم الأضرار أو حجم المساعدات من الدول الأخرى، لكن الأهم أنها ضئيلة جداً أمام المواقف التركية إعلامياً أو قبالة ما يتحدث عنه إردوغان، خاصة أنه سبق أن رفع السقف في شروط العلاقة بإسرائيل عندما أعلن أن بلاده لن تعيد العلاقات مع الاحتلال بعد «مرمرة» إلا بإنهاء الحصار تدريجياً عن القطاع، عبر السماح بتوريد وتصدير البضائع من غزة، وفتح خط بحري منها إلى قبرص التركية، وهو ما لم يحدث. بعد تحسن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، شهدت العلاقة بين الأخيرة و«حماس» ضبطاً لحجمها، بل طلبت الأخيرة من القيادي في الحركة (نائب مكتبها السياسي الحالي) صالح العاروري، مغادرة الأراضي التركية، في ضوء الاتهامات الإسرائيلية بعلاقته بقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل عام 2014، ومحاولته تأسيس بنية تحتية عسكرية للحركة في الضفة المحتلة، ليذهب إلى الدوحة قبل أن تستقر به الحال في بيروت.
لكن الأزمة الكبرى في العلاقة جاءت بعد التنسيق بين «حماس» والقيادي المفصول من «فتح» محمد دحلان، المتهم من النظام التركي بتمرير سياسات النظام الإماراتي المعادي لإردوغان ولا سيما في قضية الانقلاب ضد الأخير (2017)، ليبدأ بعد ذلك عهد التقليص الكبير في المساعدات الضئيلة أصلاً. مع ذلك، تحرص «حماس» بشدة على استمرار العلاقة، وهو ما حاول رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، تعزيزه خلال زيارته الأخيرة ولقائه إردوغان، لكن هذا لم ينعكس على أي ملف بعد، بل إن قضية «مستشفى الصداقة» تظهر العكس، خاصة أن رام الله هي المشغل له. حتى إن وكالة «الأناضول» التركية نقلت عن رئيس الوزراء، اشتية، قوله، إن «الحكومة ستعمل على تشغيل الصداقة... رداً على المستشفى الأميركي (الميداني)». هكذا، وضعت السلطة المستشفى التركي كردّ على موافقة «حماس» على إنشاء مستشفى برعاية مؤسسة أميركية من دون أن تنسق الأخيرة مع رام الله. وأضاف اشتية: «سيكون ردنا على المستشفى الذي أداره الجيش الأميركي في سوريا، ونُقل إلى غزة، هو تشغيل المستشفى المموّل من تركيا... نحن في المراحل الأخيرة للاتفاق مع الأصدقاء في تركيا لتغطية المصاريف التشغيلية للمستشفى الذي هو جاهز للعمل فوراً»، وهو ما ردت عليه «حماس» بالقول إن هذه التصريحات «تؤكد أن السلطة هي الجهة المعطلة لافتتاح المستشفى التركي بعد استلامه عام 2017 كجزء من خطتها (حماس) صحياً». إلى ذلك، تنقل المصادر أن «الصداقة» سيضم «أجهزة متطوّرة وتخصصات مختلفة، ولديه سعة 200 سرير تقريباً، لكنه لن يضم أجنحة لعلاج الأمراض الخطيرة كالسرطان والقلب والكبد».