خَفَت مواء القطط في حيّ «هادار» في مدينة حيفا المحتلة. الرجل الذي كان يسبقها لوضع الطعام لها صباحاً لم يعد منذ أسبوع، فيما الورود التي أُعدّت لعشّاق سيشترونها اليوم احتفالاً بعيد «القدّيس فلانتين» ذبلت في انتظار صاحبها. يوم الخميس الماضي، السادس من الشهر الجاري، لم يفتح شادي البنّا محلّه لبيع الورود في الحيّ ذي العمارة الأوروبية؛ فهو بعدما استيقظ صباحاً، وجد أن جسده لم يعد ملكاً له، بل بات ملكاً لشعبه. هو ليس «مجنوناً» ولا «مجرماً»... ولا «قرباناً» أيضاً. لقد قرر أن يبذل هذا الجسد في سبيل شعبه، مثله مثل أيّ فلسطيني آخر، لكنه من حيفا، وللقصة هنا بعدٌ آخر.قرّر شادي أن يحمل مسدّسه، ويذهب إلى باب الأسباط في البلدة القديمة بالقدس المحتلة. قال لنفسه وهو يخرج: «سأفرغ رصاصاتي بتلك الجيوش التي تحاصر المدينة. قد أموت، أنا أعرف، لكن ليس مهماً. لقد قررت أن أستشهد، أن أموت لأن موتي سيقتلهم، وهذه الطريقة الوحيدة التي سألغي بها وجودهم». «ألا نخوض حرباً على الوجود؟»، تساءل وهو على مشارف المدينة، متابعاً: «أعرف أنهم قد يحتجزون جثماني، لأنهم عاجزون. أجهزتهم الأمنية ليس باستطاعتها التنبّؤ بما سأفعله، ولذلك سيظنون أن التمثيل بجسدي قد يبدّد عجزهم». ربّما يتبرّع شاب من الحيّ ليقول في حديث ستوثّقه شرطة إسرائيل في فيديو، إنه «لا يُصدّق ما فعله شادي اللطيف، الذي يطعم القطط ويبيع الورود...نحن في صدمة!». سيتبرّع أيضاً آخرون ليقولوا: «ماذا؟ شادي؟ هذا المجنون الذي بدّل دينه من المسيحية إلى الإسلام؟». لكن شادي ردّ عليهم مسبقاً بجملة واحدة: «اغفر لهم يا أبتي»، فهم لا يزالون في... صدمة.
ما سبق قد يكون مجرد محاولة لتخيّل ما دار في عقل الشهيد البنا، الذي لولا أنه من مدينة احتُلّت عام 1948، لما تجرّأ أحد على نسج الروايات حوله. إذ لأنه ابن مدينة الناصرة، وعاش حياته في حيفا، فهذا لِمَن اتّهمه بأنه «مضطرب عقلياً» كافٍ كي يُستثنى من رد الفعل الشعبي. ينطلق هؤلاء من نظرة مجحفة بحق أهل الأرض الأصليين الذين فُرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية بحكم الأمر الواقع، وقد يُظن أنهم يحيون في رفاهية لا تقارَن إلا مع ما هو قائم في الدول الأوروبية، مع أن ما حلّ بهم هو أسوأ كارثة في فصول النكبة. نظرة ربّما يختزلها ما قاله صاحب أحد المحالّ الواقعة بالقرب من محلّ بيع الورود الذي يملكه الشهيد، من أن «الفلسطينيين الذين لا يملكون جنسية إسرائيلية (يقصد غزة والضفة) لم يعودوا لينفذوا عمليات، والآن شخص يعيش في هذه الدولة، وفي مدينة وليس قرية، ولديه جنسية إسرائيلية يقوم بهذا الهراء. أنا في صدمة، ولا أصدّق بأن شادي فعل ذلك».
لم يعتنق شادي الإسلام قبل العملية بأسبوعين، بل قبل عشرين عاماً


من جهتها، ادّعت شرطة الاحتلال أن «شادي معروف للشرطة بسبب مشاركته في عمليات الجريمة المنظّمة في الداخل، وهو غيّر دينه قبل شهر». لم تُكلّف وسائل الإعلام الفلسطينية نفسها عناء البحث عن مصدر المعلومة، في حين أن الحقيقة كما ينقلها إلى «الأخبار» محمد كبها، الذي زار العائلة معزياً، تفيد بأن «الشهيد من الناصرة، واعتنق الإسلام قبل عشرين عاماً، فيما بقيت زوجته على دينها، وقد تقبّلت عائلته خياره واحترمته».تشعر العائلة «بالفخر لما قام به ابنها... لقد اختار هذا الطريق. عاش مرفوع الرأس ومات مرفوع الرأس»، يضيف كبها. وعلى إثر العملية التي نفذها، اعتقل الجيش الإسرائيلي زوجته وابنه (20 عاماً). ومع أنه لم يكن لديهما أيّ علم بما حدث في باب الأسباط، إلا أنهما تعرّضا للضرب والإهانة، قبل أن يحضر إليهما المحققون علبة حلوى. وعندما استفسرا عن سبب الضيافة بعد كلّ هذا التنكيل، قال لهما المحققون إن «شادي مات وهذه الحلوانة».
مما ترويه العائلة عن شادي، أنه في أواخر السابعة عشرة من عمره كان يتجوّل ورفيقه في سوق الناصرة، وهناك استفزّه منظر الجنود، فغافل أحدَهم وجرّده من سلاحه ليخفيه لشهر في مخبأ. ويوم ميلاده الـ 18 بالضبط، اعتقله الجيش وحكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام. العائلة، التي تفخر بابنها، تبدي قلقاً فقط على طفلة تُعالَج في أحد المستشفيات الإسرائيلية من مرض السرطان، إذ إن «شادي تبنّى طفلة أردنية مصابة بالسرطان، وحتى الآن لم نخبرها بأنه استشهد. إنها تحبّه كثيراً، ولا يمكننا تخيّل كيف سنخبرها». هكذا، اختار الشهيد البنّا طريقه، مقرراً أن يصطحب معه إلى العملية صديقته الوفية، وهي كلبته السوداء. أخرج في ذلك الصباح مسدساً كان يخفيه تحت ثيابه. أطلق النار على جنود واقفين أمام باب الأسباط. لكن خللاً شلّ الرصاص عن الانطلاق، ما دفعه إلى الهرب من نيران الجنود الذين لحقوا به حتى قتلوه. أما كلبته الوفية، فظلّت تعوي بحزن فوق جثمانه.