بعيداً عن عدوى المبالغات التي يبدو أنها انتقلت من بعض العرب إلى اسرائيل، شكّل الاعتداء الذي شنّه جيش العدو صباح أمس في سوريا ترجمة للهاجس الذي يسكن صُنّاع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، ومحاولتهم إقناع أعدائهم في محور المقاومة بأن إسرائيل ليست السعودية، وأنها لن تسلّم بمعادلة الاستنزاف التي يسعى هذا المحور إلى فرضها عليها. للوهلة الأولى، لا يبدو أن ثمّة تناسباً عسكرياً بين حادثة إطلاق أربعة صواريخ على جبل الشيخ، وبين الاعتداء الإسرائيلي الذي قالت تقارير عبرية إنه استهدف مواقع لـ«قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني والجيش السوري. لكن لناحية الرسائل، يمكن القول إن ما جرى يتجاوز في مخاطره اللحظة السياسية، ويتصل بمستقبل المعادلات التي يسعى كلّ من الطرفين إلى بلورتها.العديد من المعلّقين العسكريين الإسرائيليين كشفوا أن صواريخ جبل الشيخ كانت رداً على اعتداء إسرائيلي استهدف قافلة تعود إلى «إحدى القوى الموالية لإيران» في شرق سوريا، لكن لم يتمّ الإعلان عنه في حينه. وفي ضوء هذا السياق، يبدو واضحاً أن تل أبيب فهمت رسالة الصواريخ على أنها تأسيس لمعادلة جديدة في الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية التي تندرج تحت عنوان «المعركة بين الحروب». وقد يكون ما رفع من منسوب القلق لدى إسرائيل هو أن صواريخ جبل الشيخ أثبتت صحة التقديرات التي أوردها العديد من المسؤولين والخبراء والمعلّقين خلال الأسابيع الماضية، وفحواها أن إيران اتخذت قراراً بالردّ على الضربات الموضعية في سوريا. في المقابل، كشف العدوان الإسرائيلي الأخير، بعد جلسة تقدير عقدها وزير الأمن مع الأجهزة المختصة، أن تل أبيب خلصت إلى أن عدم الرد سوف يُفهَم لدى أعدائها على أنه تردّد وخوف، وبالتالي سيدفعهم إلى تعزيز قوة ردعهم وهامش مبادرتهم، والأخطر أنه قد يُقيّد استراتيجية «المعركة بين الحروب»، مع ما سيترتّب على ذلك من تداعيات تتصل ببناء القدرات العسكرية والصاروخية في سوريا وتطويرها. مع هذا، حرصت إسرائيل على تجنّب خيارات دراماتيكية في عدوانها؛ فهي تفادت (خلافاً للإشاعات الإعلامية) قتل أيٍّ من أعضاء الحرس الثوري الإيراني، وبقيت ملتزمة قدراً من القيود المتصلة بالدولة السورية، خشية ردود مضادة ربما تكون أكثر شدة.
عمدت إسرائيل إلى اتخاذ قرار مدروس لا يستهدف «تغيير القواعد» حسبما أوضح مسؤول أمني رفيع


من هنا، عمدت إسرائيل إلى اتخاذ قرار مدروس، لا يستهدف «تغيير القواعد» حسبما أوضح مسؤول أمني رفيع (ربما يكون وزير الأمن نفتالي بينت حسبما ألمحت إليه صحيفة «هآرتس»)، وإنما «وضع معادلة جديدة» قوامها «أن لا يطلق أعداؤنا النار على دولة إسرائيل». وفي الاتجاه نفسه، رأى المعلق العسكري في «هآرتس»، عاموس هرئيل، أن الجيش الإسرائيلي لن يسلّم بتبلور معادلة مع الجولان مشابهة لما يحدث مع قطاع غزة، في إشارة إلى المخاطر الكبيرة التي يمكن أن تترتب على ذلك على الجبهة الشمالية. وبما يتوافق مع ما كان عبّر عنه وزير الخارجية، يسرائيل كاتس، في تعقيبه على حادثة جبل الشيخ، اعتبر هرئيل أن الهجوم الإسرائيلي يهدف إلى التأكيد أن «إسرائيل ليست السعودية، ولن توافق على عدم الردّ على شنّ هجمات ضدها، كما حصل بعد الهجوم المكثّف الذي استهدف منشآت النفط السعودية في أيلول الماضي»، كما أنها تريد حمل «(قائد قوة القدس قاسم) سليماني على إعادة النظر في مشروع زيادة قوته وتموضعه العسكري»، بحسب هارئيل.
من جهته، لفت معلّق الشؤون الأمنية في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، إلى أن رسائل الهجوم الإسرائيلي توزّعت على الأطراف المعنية كافّة من إيران إلى سوريا وروسيا، مضيفاً أن تل أبيب استهدفت إفهام القيادة الإيرانية أنها «ستردّ بشكل شديد على أيّ مسّ بسيادتها، ولن ترتدع عن خوض معركة كبيرة أو حتى حرب»، مستدركاً بأن إسرائيل وجّهت أيضاً «رسالة ثانوية، وهي أنها تسعى إلى الحفاظ على المواجهة في أطر عسكرية، وعدم توسيعها إلى مناطق وأهداف مدنية». وفي ما يتعلق بالدولة السورية، أشار بن يشاي إلى أن الدولة العبرية أرادت القول إنها «ستدمّر تدريجياً القدرات العسكرية للجيش السوري، وإنها ستوسّع ضرباتها كي تستهدف رموز النظام»، متجاهلاً بذلك حقيقة أن كبح تطور قدرات الجيش السوري هو هدف إسرائيلي مُعلَن وغير آنيّ، ولا يرتبط بهذه الحادثة أو تلك، وهو ما تمت الإشارة اليه في استراتيجية الجيش المحدثة في نيسان/ أبريل 2018. وبخصوص موسكو، اعتبر بن يشاي أن «الرسالة الأهم والأساسية تقول للروس إنه طالما لا يتوقف الإيرانيون والقوات الموالية لهم عن إنشاء جبهة برية ونصب قذائف صاروخية ضد إسرائيل في الأراضي السورية، فلن يتمكن الكرملين من تحقيق هدوء ووقف لإطلاق نار».
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن كلّاً من الطرفين (إسرائيل ومحور المقاومة) أوصل رسائله إلى الآخر، وأصبح أكثر فهماً لحدود خصمه والقيود التي يلتزم بها حتى الآن، مع بقاء احتمال التدحرج إلى مواجهة عسكرية أكبر مما شهدته الساحة السورية حتى الآن. لكن ما لم يتناوله المعلّقون والخبراء الإسرائيليون هو أن المواجهة قد تتّسع لتشمل أطرافاً أخرى، بما يجعلها أكثر خطورة وأشدّ تأثيراً في البيئة الإقليمية للأمن القومي الإسرائيلي. ولعلّ هذا هو ما عبّر عنه نائب المفتش العام الرئيس في «البنتاغون»، غلين فاين، عندما قال إن «القيادة المركزية الأميركية تشعر بالقلق من إمكانية قيام الوحدات المرتبطة بإيران بالانتقام يوماً ما، في حال رأت أن الولايات المتحدة متواطئة في الغارات التي شنّتها إسرائيل»، حسبما نقلت عنه صحيفة «جيوزاليم بوست».