طوال سنوات، كانت تلك البقعة المشبَعة بالحزن والقهر والجوع والدمار تُقنعنا بخفّة ساحر أنها انتصرت. وكنّا نصدّق، وسنظلّ نصدّق... إلى أن تكفّ عن فعل النهوض اليومي من بين الركام واختراع أسباب الحياة. أما الآن، فهل يحقّ لنا أن نصدّق، ولو قليلاً، أن غزّة لم تعد بخير؟ إن الاعتراف بحجم الدمار المهول الذي لحق بالنفس البشرية هُناك ليس انكساراً ولا استسلاماً، وإنما هو تشخيص لشكل الثأر الذي يجب أن يُردّ به وحجمه. ولأننا نسلّم جدلاً بأنه لا عزاء لنا في حالتنا الفلسطينية المنقسمة والمتشظّية إلا في غزة صموداً ومقاومة، ولأننا في أحيان كثيرة نعترف ضمناً بأننا قد نساوي صفراً من دونها، فمن حقنا أن نبكي ونصرخ بفعل خوفنا عليها، حتى لو افترضنا أن ما بثّه الإعلام الإسرائيلي على مدار الأيام الماضية كان لعبة من ألاعيبه الوسخة.لأولئك وحدهم، الذين أدركهم الموت وهم يستنشقونه يومياً منذ عقود، الحقّ في أن يستهزئوا به ويكابروا ويعضّوا على جروحهم متى أرادوا، فهم الذين يحفرون بأظفارهم باطن الأرض سعياً وراء الحياة الحقيقية، وهم أنفسهم الذين انحنت قاماتهم وهم يكدّسون الصواريخ ليُذيقوا العدو نارها، وهم الذين يعملون بصمت قبل أن يُستشهَدوا دفاعاً عَمّن تبقى. هؤلاء أصلاً لا نسمع صوتهم ولا نعرفهم إلا بعد أن يُتمّوا مَهمتهم المقدسة. مع ذلك، هل نكفر حين نشيح بوجوهنا، سائلين ما حكمة الرب من إبقاء أولئك الأطفال الصغار من دون أب أو أم أو أخ؟ أو لماذا لم تُجهز عليهم آلة القتل الإسرائيلية جميعاً؟ فأبقت طفلة عمرها شهرٌ، لا يتجاوز حجمها ذراع طبيب يمسك بها على سرير الموت في رواق الطوارئ؟ لمن تُركت تلك الطفلة التي ما إن بدأت تُميّز الألوان، حتى رأت لأول مرة «روب» الطبيب ملطّخاً بالدماء، وما إن بدأت تُميّز أصوات والديها وإخوتها، حتى أصمتهم الموت إلى الأبد؟ ماذا عن ذلك الأب الذي أعطوه طفله الجنين مغلّفاً بقماشة خضراء باهتة؟ ماذا سيفعل بكلّ تلك الأحلام التي كدّسها عن طفل يلعب في الحارة، وأمه تناديه عند المساء «تعالَ إلى البيت فقد حلّ الظلام»؟ وماذا سيحلّ ببطن الأم التي حملته فصار فراغاً سحيقاً يدوي فيه الصدى؟ أمّا تلك البنت التي عاد أبوها في ليلة عيد ميلادها فقُصف وأمها في غرفة نومهما، فستظلّ كلّما حلّ العيد - لو أعطوها مليون قالب حلوى - تستشعر طعم الملح بين فكّيها. وماذا عن الذعر الذي يبدأ بالتشكّل فور سماع أوّل دوي انفجار؟ إنه أمر عصيّ على الشرح.
ينقل لنا أحد الغزّيّين لنا بعضاً من تقاليد العائلة في أيام الحرب: تُعمّم الأم على أبنائها أن يبقوا جميعاً في غرفة واحدة لكي يموتوا معاً. وإذا بان أن أحدهم ليس موجوداً، يبدأ الآخرون تفقّده والتأكد من أنه سالم ولم يطله القصف وأنه سيعيش أو يموت مع الجميع. على رغم كل شيء، تجد العائلة متسعاً بين غارتين لكي تضحك بفعل النكت، فليس أمامها إلا أن تُبادِل الموت المتربّص بها بعض الضحك، مثلما فعل الشهيد محمد البلبيسي عندما هرعت زوجته ليزا قبل يوم من استشهاده، لتخبره أنها رأت مجزرة في المنام وشمّت رائحة الدم، فقال لها ممازحاً : «غطّيني لأن هذه آخر مرّة ستغطينني فيها... وفي الجنة الكثير من الحوريات»، فردت ضاحكةً: «الله يبسطك»، من دون أن تعلم أنها ستفقده في اليوم التالي.
تُعلّمنا تجارب تلك العائلات المفجوعة أنه ليس من المفترض أن تحدث مجزرة جديدة للتأكّد من أن ما يتوجّب فعله في خضمّ الموت هو التماسك... التماسك والالتحام الفعليان بين أركانها، لأن فقدان أحدها يعني خسارة معنى الحياة. كما في كلّ مرة، وكذلك في العدوان الأخير، أدرك الناجون مجدداً أن الثأر إن لم يؤخذ، فإنهم متروكون لعدوان آخر، هم من سيرفعون فيه أيديهم من تحت الركام مودّعين هذا العالم القذر، العالم الذي لا يتوانى فيه القَتَلة أنفسهم عن أن يبدّلوا «رصاصهم المصبوب» بـ«حزام أسود» على جثث الصغار والأجنّة. هو العالم الذي إن كان فيه خير للإنسان، فسيبدأ فقط من الإجهاز الفعلي على منظومة القتل التي اسمها إسرائيل.