إسطنبول | ينتقل شبّان قطاع غزة، الهاربون من واقعهم الاقتصادي السيئ إلى تركيا، البلد الذي يشكّل لغالبيتهم محطة انتقال يعبرون منها إلى اليونان، ثم إلى ما يعتقدون أنه سيكون «جنة الله على الأرض»: أوروبا! تُعدّ تركيا الممرّ الأقصر لغالبية الشبان الغزّيين، وتحديداً تلك الفئة التي تنتظر عبور المياه الدولية أو قطع نهر إيفروس الحدودي للوصول إلى ضفته الثانية في اليونان. يفضّل غالبية الغزّيين الهجرة على استصدار إقامات على الأراضي التركية تفادياً لمصاريف كثيرة تتطلّبها هذه الأخيرة، على الرغم من أن عدم استصدارهم بطاقات إقامة من شأنه أن يدخلهم في عدة مشاكل قانونية في حال إلقاء الشرطة التركية القبض عليهم، التي تظهر في المقابل تهاوناً في مسألة الترحيل خارج البلاد لحاملي الجنسية الفلسطينية.الطريق إلى اليونان، كما يصفه بعض الشبان المهاجرين إلى تركيا، يشبه إلى حدّ كبير ما يُعرف في غزة بـ«التنسيقات»؛ إذ يجري التعامل مباشرة مع المهرّب، فيما يودَع مبلغ يبدأ من ألف ومئتي دولار لدى شركة تأمين هناك، هي الطرف الثالث الذي يفترض أن يضمن وصول المهاجر إلى اليونان مقابل حصول المهرِّب على ماله من الشركة، غير أن مخالفات كثيرة تشوب هذه العملية. ووفقاً للشبان، فقد تعرّض عدد كبير منهم لعمليات نصب واحتيال من قِبَل المهرّبين وشركات التأمين التي تنشط في المدن الساحلية كإزمير وأيدن وأدرنة، فيما يكتفي الأمن التركي بإجراء ملاحقات شكلية لإظهار التزامه ببنود اتفاق اللاجئين الذي وقعته تركيا مع الاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس 2016.
بشكل عام، لا تتشدد تركيا في ملاحقة المهاجرين على أراضيها. وفي حال ضبطها مجموعات منهم، تكتفي بترحيل القادمين من الدول التي لا تعيش نزاعات مسلّحة إلى بلدانهم الأصلية، فيما تُبقي على البقية ــــ القادمين من دول تشهد حروباً ــــ في الحجز لديها، قبل أن تَصدر بحقهم أحكامٌ بالسجن مع وقف التنفيذ، ويتم إطلاق سراحهم لاحقاً، ليعاودوا الكرّة من جديد. وتخضع المداهمات التي تقوم بها الشرطة التركية، في هذا الإطار، لقانون مكافحة الهجرة غير الشرعية، والذي يعطي الحق للمحاكم التركية ذات العلاقة بإصدار أحكام سجن بحق المهاجرين غير الشرعيين، أو ترحيلهم خارج البلاد، وينص أيضاً على تجريم المهرّبين أفراداً أو منظمات، ومعاقبتهم بالسجن. وتُستخدم في عمليات المداهمة غازات تُطلَق على الشبان داخل الفنادق التي ينزلون فيها ليَسهُل اعتقالهم.
منتصف الشهر الماضي، توفي الشاب محمد أبو شملة بعد مداهمة الشرطة التركية سكناً شبابياً يقيم فيه شبان غير حاصلين على الإقامة، لتنتهي المطاردة بمحاولة هروب أبو شملة، ووفاته بفعل سقوطه من مكان مرتفع. يقول أحد أقارب المتوفّى: «تسلّمْت جواز سفره فقط، كأمانات له لدى الأمن التركي»، بينما تقول مصادر في العائلة إن هناك أغراضاً أخرى كانت معه ولم تعثر عليها، مشيرة إلى أنها سُلِّمت للأمن التركي. النهاية المأسوية لمحمد هي واحدة من قصص عديدة لشبان هاجروا من غزة إلى تركيا عبر ما يُعرف بـ«خلية الإنقاذ والمتابعة»، وهي غرفة محادثة على موقع «فيس بوك»، تنقل أخبار الراغبين في الهجرة. وتضجّ الغرفة، بشكل شبه يومي، بمناشدات شبان يتم اعتقالهم على يد الأمن التركي، إما أثناء محاولتهم الهجرة إلى الجزر اليونانية، أو داخل البلاد لعدم حصولهم على الإقامة، علما بأن الإقامة السياحية تكلّف ما قيمته 400 دولار تقريباً. ووفقاً لأحد المصادر هناك، فإن عدداً كبيراً من الشبان يرغبون في العودة بعدما أصبحوا مطارَدين من المهرّبين، «فمن يتقدم بشكوى أو يتحدث عن مهرّب»، يضع نفسه في دائرة الاستهداف.
الناشط في المجال الإنساني في اليونان، إبراهيم العبادلة، يشير إلى الجانب الأخطر من الرحلة، المتمثل في غرق عدة شبان في المياه الدولية أو الإقليمية لليونان، ما «يصعّب التعرف إلى كثير منهم كون عملية الهجرة لا تتم في مكان موحد في اليونان». وتحظر السلطات اليونانية معرفة أسماء المتوفّين إلا لدرجة القرابة الأولى أو سفارة البلد الذي ينتمون إليه، «والسفارة الفلسطينية تتعامل في أثينا مع الشبان الوافدين من غزة على أنهم خارجون عن القانون، ولا تبحث قضاياهم لا من قريب ولا من بعيد»، وفق العبادلة. ويقدّر العبادلة، في حديثه إلى «الأخبار»، عدد الشبان الفلسطينيين الموجودين في أثينا بحوالى 3 آلاف، وهؤلاء غالباً يتخذون من اليونان مقرّاً مبدئياً قبل التوجّه إلى أوروبا، مشيراً إلى أن عدداً كبيراً من الشبان الوافدين يعتقلهم الأمن اليوناني، ويتعرّضون للتعذيب وإهانات عديدة، قبل نقلهم إلى مراكز اللجوء التي لا تقلّ رعباً ووحشية عن مراكز الاعتقال. ويلفت إلى أنه تم تسجيل وفاة 18 شاباً من غزة غرقاً في نطاق الحدود الإقليمية لليونان خلال العامين الأخيرين، فيما لم يُعرف عدد مَن غرق في نطاق الحدود الدولية. وكان تقرير عبري قد تحدث عن هجرة 35 ألف فلسطيني من القطاع خلال العام الماضي، بينهم 150 طبيباً، لافتاً إلى وفاة 13 شاباً خلال هجرتهم من تركيا إلى اليونان، لكن ليس هناك أرقام فلسطينية رسمية في هذا الشأن.
وتخضع طريقة التعامل مع مسألة الهجرة، غالباً، لحسابات العلاقة التركية ــــ الأوروبية، «فهي علاقة عكسية»؛ إذا تحسّنت الظروف السياسية بينهما تتشدّد السلطات التركية مع المهاجرين وتضعهم في معتقلات (تفيد التقديرات المبدئية بوجود حوالى مئة شاب من غزة في المعتقلات التركية)، بينما تخفف من وتيرة إجراءاتها في حال انتكاس العلاقة مع الأوروبيين. كذلك، ترتبط وتيرة الهجرة من تركيا إلى اليونان بالأحوال الجوية؛ ففي مثل هذه الأوقات ترتفع معدلاتها بشكل واضح.