يلخص قرار إدارة دونالد ترامب عقد مؤتمر دولي في البحرين، مُخصّص للجانب الاقتصادي من صفقة القرن قبل الإفصاح عن جانبها السياسي، المنطق الذي يقف خلف هذه الصفقة. ما تطرحه الإدارة الأميركية على الفلسطينيين والعرب هو ببساطة التنازل عن القسم الأعظم من أرضهم المحتلة لإسرائيل مقابل حفنة من الدولارات، تكون بمثابة مسكّنات لِمَا يعانونه من أزمات اقتصادية واجتماعية. عوامل كثيرة متضافرة قد تفسر إقدام الإدارة على تقديم عرض بهذه الفجاجة: انحياز أهم أقطابها العقائدي والأيديولوجي لإسرائيل، معطوفاً على جهل مطبق لدى بعضهم، كجارد كوشنير وجيسون غرينبلات، عرّابَي الصفقة، بواقع المنطقة، وإبداء الجيل الجديد من الحكام في الخليج، كمحمد بن زايد ومحمد بن سلمان، أو رأس النظام المصري، استعدادهم للقبول بها، وتقدير موقف غير دقيق يَفترض اضطرار القيادة الفلسطينية الى الموافقة عليها، وعدم قدرة محور المقاومة على عرقلتها. المؤكد أن المؤتمر لن يتمخض في أفضل الأحوال سوى عن بعض الخطوات التطبيعية الإضافية بين بعض المشيخات الهامشية في الخليج أو بعض رجال الأعمال والكيان الصهيوني، ولن تليه أي صفقة تذكر نتيجة رفض أول المعنيين، أي الفلسطينيين، لأسسها، وما يترتب عليه من حرج لدول «معتدلة» وازنة، كمصر والسعودية، يمنعها بدورها من القبول بها، علناً على الأقل.
الاقتصاد قبل السياسة أو المقاربة المعكوسة
قبل وصول ترامب وفريقه إلى السلطة، سعت جميع الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى الربط، على مستوى الخطاب الدعائي، بين تسوية الصراع العربي ــــ الصهيوني والتنمية الاقتصادية والازدهار في بلدان المنطقة. لم يكن صدفة تزامن اتفاقية كامب ديفيد وسياسات الانفتاح الاقتصادي التي اعتمدها أنور السادات والمساعدات الأميركية المُقدَّمة لمصر، والتي كان من المفترض أن تسهم في إطلاق دينامية تنموية تحوّل «المحروسة» إلى تنّين اقتصادي، شبيه بدول جنوب شرق آسيا، بحسب السردية السائدة في تلك الفترة.
وبمعزل عن النتائج الكارثية لخيارات السادات الاقتصادية، التي شرحها المفكر المصري الراحل عادل حسين في كتابه المرجعي «الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية»، فإن الربط المذكور بين التسوية والتنمية استمرّ لعقود، وخاصة مع بداية عملية السلام المزعومة منذ عقد مؤتمر مدريد عام 1991، وما تلاها من حديث عن إنشاء سوق شرق أوسطي بين العرب والإسرائيليين بعد التسوية، تكون بمثابة «زواج للذكاء اليهودي والرأسمال العربي».
المقاربة المطروحة اليوم من قِبَل الثنائي كوشنير ــــ غرينبلات معاكسة لتلك التي اعتُمدت من قِبَل الإدارات الأميركية السابقة. يثير هذا التسلسل الشكوك، حتى بين الأنصار المتحمّسين للتسوية حرصاً على مصالح إسرائيل، حول إمكانية نجاح مثل هذه المقاربة. تامارا كوفمان ويتس، من مركز سياسة الشرق الأوسط في معهد «بروكنغز»، رأت في حديث إلى «نيويورك تايمز» أن الأمر «يشبه بيع شقة في ناطحة سحاب لا يتوفر رسم هندسي لها بعد. خطر الإعلان عن رؤية اقتصادية من دون رؤية سياسية ملازمة لها يكمن في أن الأمر سيبدو للكثير من الفلسطينيين، وربما لغيرهم في المنطقة، على أنه محاولة جديدة لشراء المطالب الفلسطينية الجوهرية، ما سيخلق أجواء سلبية تجاه أي خطة سياسية عندما يتم الإعلان عنها».
ما أصبح معروفاً عن المضمون السياسي للصفقة، بعد تصريحات المسؤولين الأميركيين والتسريبات الإعلامية، يتيح وحده فهم أسباب التسلسل المذكور. هي محاولة فظّة لرشوة الفلسطينيين والعرب للتنازل عن المزيد من الأرض والحقوق لإسرائيل. وافقت الإدارة الأميركية على ضمّ إسرائيل للقدس والجولان، ما يمهّد لموافقتها على نية بنيامين نتنياهو المُعلَنة ضمّ القسم الأوسع من الضفة الغربية. وهي أوقفت تمويلها لـ«الأونروا» ضمن مشروع يهدف إلى تصفية حق العودة. عندما تؤخذ هذه الحقائق في الاعتبار، يتضح أن المعروض على الفلسطينيين هو نوع من الحكم الذاتي المُوسَّع ضمن معازل مكتظة سكانياً وغير متواصلة جغرافياً، سبق للبعض أن سمّاها «أرخبيل الأراضي الفلسطينية»، مع مساعدات اقتصادية لمنع الهبّات والانتفاضات الشعبية ضد هذا الشكل الجديد من الاحتلال.
لقد أعلنت السلطة الفلسطينية رفضها مؤتمر البحرين، واعتبرت المشاركة فيه خيانة، وكذلك فعلت منظمات المقاومة. لن يجد الأميركيون فلسطينياً واحداً له حد أدنى من الصفة التمثيلية يوافق على «صفقة القرن». لهذا الواقع تبعات مهمة بالنسبة إلى مواقف الأطراف الإقليمية الوازنة والصديقة للولايات المتحدة. عُرفت هذه الأطراف في السابق على أنها معسكر الاعتدال في المنطقة لأنها «نأت بنفسها» عن دعم حركات المقاومة، وأيّدت مسار التسوية المرعيّ أميركياً، وتَقدّمت قائدتها، المملكة السعودية، بمشروع للتسوية على قاعدة التطبيع الكامل مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة. لماذا لم يتوجه جارد كوشنير وجيسون غرينبلات إليها لطلب مشاركتها في رعاية «صفقة القرن»، وخاصة أن علاقات حميمة ومصالح مهمة تجمع بينه وبين ولي عهدها الطموح؟ لماذا لم يطلب من مصر أيضاً المشاركة في رعايتها؟
الجواب واضح وليس فيه التباس: هاتان الدولتان لا تستطيعان الموافقة على حل للصراع العربي ــــ الإسرائيلي لا يقبله الطرف الفلسطيني، ولا يتضمن انسحاباً إسرائيلياً من القدس الشرقية وقيام ما يشبه الدولة الفلسطينية، حتى ولو عُدّلت حدودها بناءً على طلبات إسرائيلية. لذلك، اختار كوشنير دولة طرفية في المنطقة ليعقد مؤتمره الدولي العتيد، الذي سيبحث في المضمون الاقتصادي لصفقة بلورها جهلةٌ بشؤون الإقليم، وترعاها مشيخات وإمارات مجهرية وهامشية، ويرفضها أول المعنيين أي الفلسطينيون. لا يتطلب الأمر قدرة عالية على الاستشراف لتوقع فشلها الحتمي.