أيّاً كانت الخلفيات السياسية والانتخابية التي تكمن وراء قرار وزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بالاستقالة من منصبه، وهي صحيحة، المؤكد أنها شكّلت إحدى أبرز النتائج السياسية لانتصار المقاومة في قطاع غزة. وأنه لولا ما أسماه «الخضوع» للمقاومة ما كان ليبادر إلى هذه الاستقالة في هذا التوقيت. بعبارة أخرى، نحن أمام حدث ساهم في بلورته عاملان أساسيان لكل منهما كان له موقعه الأساسي، انتصار المقاومة في قطاع غزة، والتنافس السياسي والحزبي على القاعدة اليمينية المتطرفة.منذ اللحظة التي فشلت فيها إسرائيل في قمع المقاومة وردعها عندما ارتقت في اعتداءاتها على قطاع غزة، وأظهرت فيها فصائل المقاومة حزماً واستعداداً للذهاب إلى أبعد مدى في ردودها الصاروخية والعسكرية، أدركت تل أبيب أنها أمام خيار من اثنين، إما الذهاب في معركة مفتوحة يتعرّض فيها العمق الإسرائيلي وصولاً إلى تل أبيب وما بعدها، إلى القصف الصاروخي، أو القبول بصيغة وقف إطلاق النار التي تمت، في محاولة لتجنب المزيد من الخسائر البشرية والأمنية والسياسية والردعية.
واستناداً إلى التجارب السابقة، وما تملكه من معلومات حول التطور الذي شهدته قدرات المقاومة في القطاع، إضافة إلى إدراكها للخيار الذي انتهجته قيادة الفصائل في القطاع، وجدت القيادتان السياسية والأمنية نفسها ملزمة بتحديد موقف صريح حول الهدف الذي تريد أن تحققه من أي خيار تتبناه، هل هي تريد احتلال القطاع؟ وماذا بعد ذلك؟ هل هي تريد إضعاف قدرات المقاومة من دون أن تصل إلى الاحتلال العسكري المباشر؟ أم تريد فقط تعزيز قدرة ردعها؟ وكيف يمكن تحقيق كل من هذه الأهداف مع أقل قدر من الخسائر وبوقت أقصر؟ وهل هي مستعدة لتحمّل تكاليف بشرية وأمنية واقتصادية كبيرة لتحقيق أي من هذه الأهداف؟
كل هذه الأسئلة وغيرها من المؤكد أنها حضرت على طاولة القرار في ضوء إرادة القتال الصلبة، والقدرة على خوضه لفترات زمنية طويلة. هذا من دون تناول الظروف الإقليمية والأولويات الاستراتيجية للكيان الإسرائيلي في هذه المرحلة؟
وكما كان متوقعاً في حينه لم تختار إسرائيل عملية عسكرية واسعة ضد القطاع، وفي هذا السياق برزت حكمة المقاومة التي جمعت في ردودها بين الصمود والحزم، وبين عدم حشر العدو لدفعه إلى خيارات لا يريدها ابتداء في هذه المرحلة، ونجحت عبر ذلك في تحويل العمق الإسرائيلي إلى ورقة ابتزاز وردع عن خيارات أكثر دراماتيكية.
اتخذ ليبرمان قرار الاستقالة وهو يدرك أن لها مفاعيل سلبية معنوية على صورة إسرائيل


وهكذا تتجلى بوضوح حقيقة أن هذه الجولة من القتال شكّلت مؤشراً قوياً إضافياً عما آلت إليه معادلات القوة مع الكيان الإسرائيلي بعدما باتت قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، نقطة الارتكاز الأساسية في حركة الصراع. وهو ما عزَّز أيضاً النظرة التفاؤلية إزاء مستقبل الصراع، في ضوء استناد قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، إلى محور إقليمي يتعاظم من فلسطين إلى طهران.
في ضوء محدودية الخيارات وكلفة كل منها، ينبغي أن لا يكون مفاجئاً وجود أكثر من رأي وتقدير داخل مؤسسة القرار، خصوصاً إذا ما دخلت الاعتبارات الحزبية والمصالحة الانتخابية لبعض الأطراف. وتحديداً عندما يتعلق الأمر بشخص يتولى منصب وزارة الأمن وهو المسؤول المباشر عن تنفيذ أي سياسة يحددها المستوى السياسي. وهو الذي سبق أن قيَّد نفسه منذ أن كان في المعارضة بالسقوف المرتفعة، إزاء غزة ولبنان، ولكن منذ تولى منصبه واطلع على المعطيات العسكرية والاستخبارية والتقديرات السائدة في المؤسسة الأمنية، بات أكثر عقلانية. وهو ما ترك أثراً سلبياً كبيراً على صورته في الشارع اليميني ولدى جمهور ناخبيه. ولو وافق على صيغة وقف النار، مع قطاع غزة، بالصورة التي انطبعت في أذهان الرأي العام الإسرائيلي كان ذلك سيشكّل ضربة قاضية له، وستحرمه من العودة ليس فقط إلى الحكومة، بل ربما أيضاً إلى عضوية «الكنيست».
في التوقيت الداخلي الإسرائيلي، كان واضحاً جداً أن ليبرمان، على رغم شعاراته التي يرفعها إزاء قطاع غزة، اتخذ قرار الاستقالة وهو يدرك أن لها مفاعيل سلبية معنوية على صورة إسرائيل، لكنه هدف من وراء ذلك إلى تحسين شعبيته داخل معسكر اليمين على أمل أن يساهم ذلك في رفع رصيده الانتخابي خلال الانتخابات المقبلة، خصوصاً أن استطلاعات الرأي تكشف عن تراجع حزبه الكبير وبعضها يتوقع اختفاءه عن «الكنيست» المقبل. وهكذا قد تتحول استقالة ليبرمان إلى إطلاق للمعركة الانتخابية التي ستفرض نفسها على كافة أطراف الحكومة. أما لجهة أثر غيابه عن حقيبة الأمن فلا يتوقع أن يكون لذلك أي أثر على المؤسسة الأمنية، ولا على أدائها، خصوصاً أنه لم يترك أي بصمات عليها، بل كانت تقديراتها هي التي تتحكم بتوجهات المستوى السياسي.
في السياق نفسه، أدت استقالة ليبرمان أيضاً، ومعه وزيرة الهجرة والاستيعاب وعضو حزبه «إسرائيل بيتنا» صوفا لاندفر، إلى اهتزاز الحكومة التي تقلصت قاعدتها البرلمانية إلى 61 عضو كنيست (أي نصف زائد واحد). وهو ما يؤشر إلى أن القيادة السياسية دخلت في مأزق حقيقي إزاء الخيارات الواجب اتباعها مع قطاع غزة، وأيضاً إلى أن خياراتها الأمنية، تختلط أيضاً بالحسابات الانتخابية. وكان لافتاً في هذا الإطار، أن ليبرمان لم ينتقد قيادة الجيش التي روجت ودفعت للموافقة على وقف النار، بل ركّز تصويبه على رئيس الحكومة وهو ما برره بالقول إن «المؤسسة الأمنية كلها خاضعة للمستوى السياسي ومن يحدد السياسات هو المستوى السياسي، وبرأيي هذا المستوى قد فشل ولم يتخذ القرارات الصحيحة».
ونتيجة هذا الاهتزاز الحكومي، تراوحت التقديرات داخل الساحة السياسية بين من يرجح أنه سيسعى لمواصلة عمل الحكومة بائتلاف ضيّق، وهو ما سيعرِّضه للمزيد من المزايدات، خصوصاً أن إسرائيل دخلت عملياً في أجواء الانتخابات حتى لو لم يتم الإعلان عن ذلك رسمياً، هذا من دون إلغاء سيناريو اضطراره للإعلان عن تقديم موعد الانتخابات. وبحسب تقارير إعلامية، سيتسلّم نتنياهو بنفسه حقيبة الأمن، على رغم مطالب «البيت اليهودي» بتسليمها لرئيس الحزب، نفتالي بينيت، كشرط للبقاء في الائتلاف، وهو ما سيعرضه لمزيد من الضغوط من قبل أحد أهم منافسيه على المعسكر اليميني.