إجبار إسرائيل على التراجع أمام قطاع غزة، انتصار فلسطيني لا يمكن المجادلة فيه. ومن جديد، المجحف بحق الفصائل الفلسطينية في غزة، قياس مكاسبها وغير مكاسبها، في منازلتها الجارية مع الاحتلال، عبر الحسابات الرياضية. أن يتراجع الاحتلال ويمتنع قسراً عن خياراته العسكرية، مع تواضع إمكانات حركة حماس وباقي الفصائل، قياساً بإمكانات أعدائها، يعدّ انتصاراً بذاته مهما كانت النتيجة النهائية للتفاوض الجاري حول وقف إطلاق النار بين الجانبين. مع ذلك، وفي موازاة هذا الانتصار وتأكيده، من المفيد الإشارة إلى الآتي:تراجع إسرائيل وشركائها في العداء للمقاومة، لا يعني أبداً أن الحرب مع الاحتلال قد انتهت. التموضع العدائي بين الجانبين لا يتغيّر، وسيسعى الاحتلال للعمل ضد المقاومة الفلسطينية والخيار المقاوم عبر الخيارات الأمنية والسياسية والاقتصادية، مع أو من دون استئناف الخيار العسكري، ومع أو من دون التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، رغم كل ما يتسرّب عن بنوده.
تراجُع العدو هو انتصار في معركة واحدة تتعلق بفكّ الحصار عن قطاع غزة وتقليصه، في سياق حرب وجودية أوسع بين الجانبين، لا تتضمن اتفاقات أو حلولاً تسووية.
في ذلك أيضاً، الانتصار الفلسطيني في هذه المعركة قد يشكّل تحفيزاً إضافياً للاحتلال للعمل في حد أدنى على ترميم صورة تراجعه أمام الفصائل وانكشاف قلقه من الحرب وامتناعه عنها، وبغضّ النظر إن كان ترميم الصورة عبر الخيارات العسكرية والأمنية التي ستكون محدودة في حال التوصل إلى اتفاق، أو عبر خيارات أخرى. وفي ذلك، إمكانات الاحتلال وشركائه في العداء للمقاومة، تفوق إمكانات المقاومة بما لا يقاس.
إسرائيل معنية في الموازاة، بأن لا تدفع السلطة الفلسطينية إلى الانكسار بوصفها الخيار التفاوضي الذي تريده، مقابل حركة حماس بوصفها الخيار المقاوم الذي تحاربه، وهي (إسرائيل) معنية بشراكة السلطة في الاتفاق، بل ربط التسهيلات المتعلقة بالحصار، في حال تحققها، بالسلطة الفلسطينية لا بحركة حماس. وهي نتيجة تصرّ عليها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية (الشاباك) وتدركها السلطة وتعمل بموجبها ضد الاتفاق نفسه.
تنظر إسرائيل إلى الاتفاق، ودائماً في حال تحقّقه الفعلي، على أنه يشكّل فرصاً وتهديدات، وهي تعمل على الاستفادة القصوى من فرصه وعلى محاولة تقليص تهديداته أو تصفيرها في المقابل. وتتمثّل فرصه في وقف التصعيد الأمني والتهدئة وعدم التسبب بنشوب مواجهة لا تريدها، فيما مروحة التهديدات واسعة، تبدأ بأضرار صورة تراجع إسرائيل أمام الخيار المقاوم وتداعياته السلبية على مستوى ردعها، ولا تنتهي في أن حصارها الطويل وشركائها، أخفق في تحقيق وظيفته الأساسية، بعد أن كان معلقاً ومرتبطاً بسلاح المقاومة، ومطلب نزعه ومنع تناميه.
بناءً على ذلك، معركة المفاوض الفلسطيني كبيرة جداً، لأنها تتعلق بانتزاع تنازلات، لا مجرد عكس نتائج الميدان العسكري على طاولة التفاوض السياسي. كذلك، فإن المفاوض الفلسطيني، وإن كان يواجه محوراً معادياً واحداً، إلا أنّ جهات هذا المحور تختلف في ما بينها ولا تتطابق مصالحها على نحو كلي، إذ تريد كل جهة أن تدفع الأخرى الثمن الأكبر للاتفاق فيما تقلص هي أثمانها الخاصة.
في الوقت نفسه، تسعى الجهات المحاصرة لغزة إلى تفاهمات فكّ حصار الحد الأدنى، مع منع آليات لا تبعد عنها إمكان استئناف الحصار وإعادة فرضه، في حال تغيُّر الظروف لاحقاً وعودة الرهانات على الخيار الاقتصادي من جديد. جهات الحصار، في ذلك، يتعذّر عليها أن توافق على تفاهمات تتضمن آليات تبعد عنها الإشراف على المعابر أو الممرات المائية أو غير المائية، ما لم يكن الإشراف عليها من غير جهات الحصار، شكلياً. على هذه الخلفية، يتمحور البحث في تفاصيل الاتفاق وعقباته، مقابل طموح فلسطيني واسع، وامتناع ثابت للمحور المعادي.
ما يرتبط بالاتفاق من الجانب الفلسطيني، والحديث هنا عن حركة حماس والفصائل التي تصطف إلى جانبها، فالاتفاق الجاري التفاوض عليه، الكامل أو بالتقسيط، يحمل أيضاً فرصة لتحقيق القدر الأوسع من المطالب، وإن كانت العقبات قائمة في المقابل. إحداها هي التهدئة الأمنية التي تقلق الاحتلال وتدفعه إلى التراجع والاستعداد إلى تنازلات بشأن حصار غزة، والى جانب ذلك، مصلحة الاحتلال في التركيز على التهديد الشمالي، في الساحتين السورية واللبنانية، في محاولة لمواجهة هذا التهديد وإمكان تناميه، إلى الحد الذي لا يمكن لاحقاً مواجهته، وهو تهديد يستدعي من الاحتلال التفرغ وتخصيص الموارد لمواجهته، ما يشكّل فرصة كامنة للفصائل في غزة، يمكن الاستفادة منها إلى الحدّ الأقصى، في حال نجاعة المفاوض الفلسطيني وحكمته.
بناءً على كل ذلك، وإلى جانب تحقق الانتصار الفلسطيني في دفع الاحتلال ومحوره إلى التراجع، لا يمكن الحديث عن نتائج حتمية في المفاوضات السياسية الجارية حالياً، والمبنية على هذا التراجع. البنود التي يجري تداولها في الاتفاق، دونها عقبات قد يصعب حلها، وإن كانت غير متعذرة بالمطلق. الترجيح حتى الآن، في حال التوجّه الفعلي للتهدئة ونجاح المفاوضين، ترحيل جزء البنود إلى اتفاق أو اتفاقات لاحقة، منفصلة عن إمكان تحقيق أولي لاتفاق ابتدائي، قد يقتصر على تليين الحصار من جانبيه، الإسرائيلي والمصري، في مقابل التهدئة الأمنية، ومن دون استبعاد في المطلق، إمكان فشل التفاوض أيضاً، والعودة إلى ذي بدء.