في وقت تستمر فيه الآلة الإعلامية، بصفتها جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية الأبوية، في صناعة وتشكيل صورٍ نمطية عن المرأة الفلسطينية على أساس كونها أماً أو أختاً أو زوجته لشهيد، تتقبل الموت والفقد بالزغاريد والأهازيج تارة، وضحية ضعيفة يُنظر إليها بدونية تارة أخرى. وفي الوقت نفسه تكرس (الآلة الإعلامية) حصر دورها ضمن هذه الحدود، غافلة ميادين كثيرة تصارع فيها هذه المرأة بصلابة لا تقل أهمية عن دور الرجل، وجدت الفلسطينية فداء أبو حمدية نفسها، تشق طريقاً مغايراً غير مألوف، متحدّية بخيارها منظومة مجتمعية منفرّة، حتى «قهرتها» في نهاية الأمر.بداية حديث «الأخبار» مع فداء، كانت من «نافذة» على موقع «فايسبوك»؛ حيث انتشرت فيديوهات لفلسطينيين في بلدهم وفي الشتات، وهم يتحدّون بعضهم البعض في #تحدي_قلبة_المقلوبة. الفوز في الميدان الافتراضي، كان من نصيب فداء، والسبب ليس لأنها أتقنت قلب المقلوبة، محافظة على شكلها (كقالب كايك دائري)، وإنما لأن القلب تمّ أمام إيطاليين، كانوا قد حضروا حدثاً في أحد المدن الإيطالية، أقيم لأجل جمع تبرعات لإقامة روضة أطفال في قرية المعصرة الفلسطينية التي تنشط في إطار المقاومة الشعبية لمناهضة جدار الفصل العنصري والاستيطان.
«التقصي» وراء فداء كشف عن حياة امراة مناضلة بطرق غير مألوفة، فهي عدا عن كونها شغوفة بالأطباق الفلسطينية والإيطالية، استطاعت تحوّيل الأكل، بعد دراستها الجامعية في تخصص فنون وعلوم الطهي، من فعل استهلاكي كجزء من الاستمرار البديهي لحياة الإنسان، إلى فعل مقاوم لا يقل أهمية عن أفعال نضالية أخرى.
الطاهية الفلسطينية فداء أبو حمدية (عن الويب)

الهوية الفلسطينية في طبق
في عام 2004، اختارت فداء ترك مسقط رأسها والانتقال موقتاً إلى إيطاليا لدراسة فن وعلوم الطهي. وبعد حصولها على شهادتَي البكالوريوس والماجستير في التخصص، بدأت تنشر عام 2011 عبر مدونتها الخاصة وصفات الأطباق الفلسطينية باللغة الإيطالية، لاحقاً خصصت لها إحدى الصحف المحلية هُناك زاوية أسبوعية لتنشر فيها وصفاتها بعنوان «الطعم والهوية». وفيها حكت عن فلسطين، وطعامها وعاداتها أمام قراء من مجتمع أوروبي ربّما لم يصله عن فلسطين سوى أنها بقعة محتلة، وأحياناً كثيرة «أبناؤها إرهابيون» كما تروّج إسرائيل. وبعد سنوات (عام 2016)، ألّفت مع رفيقتها الإيطالية أول كتاب عن الطبخ الشعبي الفلسطيني باللغة الإيطالية. وفي وقت قياسي من صدور كتابها «Pop Palestine Cuisine» نفَدَت جميع نسخه. فداء تشرح لـ«الأخبار» السبب، قائلة إن «المطبخ الإيطالي يستخدم مواد ومكوّنات قريبة من المطبخ الفلسطيني، لا سيما جنوب إيطاليا المُطل على حوض البحر الأبيض المتوسط. فهم مثلنا يزرعون أشجار الزيتون، والتين، والعنب، ويجففون البندورة...». وتضيف «من خلال تجربتي معهم، يعشق الإيطاليون الأطباق الفلسطينية، من حمص، ومناقيش الزعتر، وكعك العيد (المعمول بالتمر)، والمقلوبة، وحتى أبسط الأشياء مثل السلطة العربية التي نعدها على موائدنا في فلسطين».
الكتاب، وبالرغم من كونه كتاب طهي، إلا أنه يعتبر الأول من نوعه، فهو رحلة حقيقية تبدأ من شمال الضفة الغربية المحتلة مروراً بالقدس حتى جنوب الضفة، انتهاءً بغزة. وبدأ المشروع عندما قررت فداء وأصدقاء إيطاليون ينشطون ضد الاستيطان، زيارة القرى والمدن الفلسطينية، بداية من جنين شمالي الضفة، حيث يدخلون بيتاً ما يستضيفهم ويطبخون مع أصحابه ثم يوثقون تجربتهم، من خلال نقل الوصفة المحلية وقصتها، دون إغفال للجوانب السياسية والواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في المنطقة المضيفة.
ويقسم كتابها إلى عدد من الفصول، يعرف كل فصل الطبخات بحسب المدن الفلسطينية وطريقة إعدادها، مرفقاً بصور الأطباق والنساء اللواتي قمن بتحضيرها، وإلى جانب نصوص عن كل طبق، فمثلاً هناك أطباق معينة تعد في قرى أو مدن فلسطينية ليست معروفة حتى للفلسطينيين أنفسهم، والكتاب يضيء على هذا الجانب، إذ ينقل من مدينة أريحا وصفة القطايف بحشوة التمر، ومن غزة السماقية التي لا تحضر في أماكن ثانية من فلسطين. هذه الطريقة شكّلت، بحسب فداء، «مادة توثيقية وتأريخية ومدخلاً لفهم العلاقة بين الفلسطينيين وأرضهم بالنسبة إلى الإيطاليين ــ الذين صادف أن كثراً ممن قابلتهم لا يعرفون عن بلدنا سوى ما تروجه إسرائيل للعالم الغربي».
والكتاب من ناحية ثانية، ينقل حقيقة لا لبس فيها، ومفادها بأن الطبخ التراثي الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من الطبخ التراثي للمنطقة العربية عموماً «فالعرب لديهم ثقافة ومورث مشترك بالطعام، في حين يبقى الاختلاف بين أسماء الأطباق، وطريقة إعدادها».

المقاومة بالطبخ
على متن الخطوط الوطنية الإسرائيلية «إل -عال»، تقدَّم وجبات طعام فلسطينية للركاب على أنها إسرائيلية، مثل الفلافل والحمص وغيرهما، تحت شعار «كمو ببايت- (اشعر) كما في البيت (الإسرائيلي)». أمّا بالنسبة إلى الخطوط البريطانية فهي كذلك تقدم لركابها طبخة المفتول الفلسطينية الشهيرة (مكونة من الحمص والدجاج وزيت الزيتون البلدي وطحين القمح) على أنها أكلة تراثية إسرائيلية! في فلسطين المحتلة أيضاً تنتشر المطاعم الشعبية التي تقدم أكلات الحمص، والفلافل، والشكشوكة (الجز مز السورية)، ومنقوشة الزعتر البلدي، وورق العريش، والتبولة... وغيرها من الأطباق، التي يُروج لها على أنها أطباق من المطبخ الإسرائيلي! كذلك الحال في دول غربية تنتشر فيها هذه المطاعم، حيث يُديرها طُهاة إسرائيليون.
تشرح فداء أنه خلال إقامتها في إيطاليا «اكتشفت أكثر من مطعم إسرائيلي يقدم أطباق بلدها لزواره على أنها أطباق موروثة من المطبخ الشعبي الإسرائيلي ــ وكأن هناك ثقافة طعام مشتركة بين الإسرائيليين الذي قدموا من كل أصقاع الأرض، في حين أن أبسط الاعتبارات التي على أساسها تُسمى مجموعة ما بشعب ليست موجودة بينهم، فغالبيتهم مثلاً يستخدمون لغات المناطق التي جاؤوا منها للتواصل، كما يحملون موروث البلد الحضاري والثقافي إلى إسرائيل...وبما أنهم قاموا على سرقة أرضنا، فليس غريباً عليهم سرقة أطباقنا الشعبية».
الطعام إذاً بالنسبة إلى فداء هو هوية شعب، ولذلك في كل حدث تُدعى إليه في إيطاليا لأجل تحضير الطعام أو الحديث عن كتابها، فإنها تشرح للحاضرين ليس فقط عن المكوّنات وإنما عن سرقة الإسرائيليين الممنهجة للأطباق الفلسطينية. وهو ما دفع إيطاليين كُثر إلى الاهتمام بنشر هذه الحقيقة، وآخرين باتوا نشطاء حقيقيين يسافرون إلى فلسطين للدفاع عن قُراها وأراضيها المهددة بالمصادرة، كما يُشاركون دوماً في نشاطات تقيمها جمعية «assopace Palestina». والأخيرة كما تشرح فداء هي مؤسسة إيطالية «تُعنى بالتعريف عن فلسطين في إيطاليا، كما تنظم رحلات مرتين في العام إلى فلسطين، مسهلة للإيطاليين زيارة القرى التي تُخاض فيها مقاومة شعبية، وهناك يتعرفون إلى الفلسطينيين عن قرب، ويدعمون صمودهم».